domingo, febrero 24, 2013

عبد اللطيف شهبون… لم يزل يراك.. عزيز الحلاج



عبد اللطيف شهبون لم يزل يراك..
عزيز الحلاج
من معين التجربة الشعرية والتجربة الصوفية، ينكتب العناء والمكابدة والشوق والوجد.. وبمداد كل عذاب وحرقة واحتراق ومجاهدة، يكون البوح والكشف.. والصوفي والشاعر كلاهما يسخر الخيال ويعتمد الإلهام، حد الفناء والذوبان، وكلاهما يعبران من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، من الصحو إلى السكر، حيث الاطلاع على ما وراء الحجاب، وكلاهما يجعل الدلالة المعهودة تمرق إلى دلالة أخرى منزاحة، بعيدة قابلة لأي قراءة وتأويل.
أدرك أهل التصوف منذ زمن بعيد الإمكانات والطاقة التحميلية للشعر، فعملوا على تطويعه لتجربتهم. ومع أن التجربة الصوفية والتجربة الشعرية تبدوان مختلفتين شكلا وموضوعا، إلا أنهما تتحدان في كونهما إنسانيتين، وتتوسلان الرمز والانزياح وإشارية اللغة من أجل السمو بالذات لإدراك الكل/المطلق.
من الواضح أن عددا لا يستهان به من المتصوفة قد عانقوا الشعر على شاكلة الحلاج(شهيد العشق الالاهي) وابن عربي(صاحب مذهب وحدة الوجود) وابن الفارض (سلطان العاشقين) وجلال الدين الرومي(اعظم شعراء الحب الالاهي) وحافظ الشيرازي(لسان الغيب وترجمان الاسرار) والسهروردي(شهيد الاشراق) وأبي بكر الشبلي( أحد مشايخ الصوفية الكبار) وعبد القادر الجيلاني (قدوة الاولياء العارفين)،كذلك ومثال بزغ شعراء نزعوا منزع الصوفية في توظيف الرموز والألغاز والتورية، من أمثال صلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي.. و أحمد سعيد(أدونيس)، الذي يعرف التصوف بأن له علاقة بما هو خفي، وهذا الخفي لا يمكنه إلا أن يأسرنا لخفاه، و لا يمكن إلا أن يشوقنا لبعده واحتجابه، خصوصا إذا ما تم ربط هذا الخفي بخفي آخر، و هذا المحتجب البعيد بمحتجب بعيد آخر ألا وهو الشعر ..أيضا هنا عبد اللطيف شهبون، المتصوف الذي يقدم نفسه بقوله " أنا غصن في شجرة نسب رُوحيّ.. وروضة تعريفي هي شجرة التصوّف .. أنبثق من رحمها .. وأتغذى من جذورها .. وأرتوي من نسْغها.. مُنعّما بما أعيشه وأطالعه وأتذاكر فيه. .استمدادا من سيدي حمزة القادري رضي الله عنه".. ويقدم نفسه-كذلك- كشاعر حداثي يرى أن علاقة التصوف بالشعر علاقة تناغم وتجاذب واندغام وتكامل، علاقة رؤية، أو رؤى، وأن إمكانية التصوف باعتباره تدبرا وتأملا، أمر لامناص أن يقوي - بالقوة والفعل - المادة الشعرية على صعيد جمالي وجلالي.
هذا الشاعر والمريد، من مواليد أقصى شمال المغرب، في الخمسينيات من العمر، يتحدر من شفشاون. تلقى تعليمه الأولي بتطوان، " مسقط قلبي"، و"فضاء لكل تعيُّناتي ومعادل موضوعي لحبِّي الأوَّل"، هذه المدينة التي "فيها من اختطف قلبي .. وما زلت أرسم ملامحه وملامحي كُلّما امتد وجعي.. وهذه حالة مُلازمة تسري في أوصال قصائدي مسْرى النّفسِ في النّفس". وفي فاس حصل على الإجازة في الأدب العربي، وبالرباط، نال ديبلوم الدراسات العليا ، وفي طنجة يقول"مُنحت صحبة أخيار.. وقليل ماهم.. وفي هبّات ربيعها جدّدت اخضراري مع رفقة طيبة؛ بعض من وجوهها غائبة الآن.. محمد الخمار الكنوني، الطيب الدليرو، محمد العربي الخنوس، أنور المريبطو،عبد الصمد العشاب.. وقدم بهذه المدينة خدمات تعليمية وتربوية بثانوية زينب النفزاوية، والمركز التربوي الجهوي، ومدرسة الهدى.. وانخرطت في عمل سياسي ونقابي وجمعوي وحقوقي(اسم وازن في منظمة حقوق الانسان بالمغرب).. لم أكن معزولا عن قضايا المغرب.. ولم أركن إلى جمود.. وخلال ثلاثة عقود من العمل المضني، كونت صداقات مع إخوان شددت يدي عليهم.. ولازمتهم"، و بهاته المدينة" رزقني الله أبنائي الدكاترة : بسام، أحمد، وصبح من أم مثالية.. وبها أتممت دراستي .. " ويستمر في الدراسة والتحصيل إلى بلوغ دكتوراه الدولة بتطوان.

خاض الدكتور شهبون في النقد، فكان من أهل الاختصاص، ودخل الترجمة من أوسع أبوابها، وكتب ويكتب، والكتابة والكتب ترافقه في صحوه وقبل نومه، لايرى إلا وهو يتأبط كتابا أو جريدة أو بين يديه أو بمحفظته أو تحفظ جيوبه أوراقا خط عليها أفكاره ومواجده وأحواله القلبية والروحية.

راكم شهبون تجارب عدة، ووقف على تيارات فكرية متنوعة، عب من بعضها، وتشبع ببعضها في مسيرة حياته.. ، لكن استقر به القرار أن ينصت إلى داخله، إلى عمقه وجبلته، وحط عن قناعة وإيمان لا يتزحزح بملكوت التصوف، فمال إلى عقلانية إيمانية أخلاقية، موقيا بهذا العلم الروحي الذي يعتبره المخلص من الضلال، والذي بفضله يمكن تخطي الحسي وبلوغ الحقيقة والاتصال بالحق، والذي بقدر ما ينهض على استحضار خالق هذا الكون، يعمل على بناء شخصية الإنسان بناء أخلاقيا صحيحا، كمنهاج في الحياة وموقف وجودي ضدا على اشتداد الغفلة وطغيان المادة وكذا الميوعة والتوى الذي تشهده القيم باستمرار بفعل، مستجدات المدنية الحديثة الجامحة والتي لاتقيم للأخلاق وزنا.تضرب علاقة أستاذنا بهذا العلم الرباني الذي ملك عليه أحاسيسه، بجذورها في زمن بعيد. ففي بيئة محافظة مثقفة، وضعت رهن إشارته مكتبة تراثية من أمهات الكتب في مختلف مشارب المعرفة خاصة في التصوف منذ يفاعته، إذ كان كل من جدي أمه وأبيه من أهل الصلاح والتقوى، أحدهما من الزاوية العيساوية والآخر من الزاوية الدرقاوية. ولذلك، طبيعي أن يكون شهبون مريدا في طريقة تستجيب لرؤيته لنفسه وللعالم والكون، وهي طريقة الشيخ حمزة القادري البوتشيشي.وغير خاف أن الطريقة القادرية البوتشيشية، تنتسب إلى الشيخ مولاي عبد القادر الجيلاني، هذا الشيخ الذي ورد عنه في "تكملة إكمال الإكمال في الأنساب والأسماء والألقاب" أن ظهوره كان في القرن الخامس بالمشرق، ونحن لانملك بينة موثوقا بها عن أنه دخل المغرب، وقد لحن المغاربة اسمه، فاشتهر بمولاي عبد القادر الجيلالي، صاحب كرامات ظاهرة وولي من الأولياء المجتهدين والمشايخ المرجوع اليهم في أمور الدين وأحد أئمة الإسلام العالمين العاملين. ويتفرع من سلالته، الشيخ الحالي للطريقة الحاج حمزة البوتشيشي.

ألف الأستاذ عبد اللطيف شهبون في التصوف، من ذلك كتاب: "الخصائص الأسلوبية في شعر التستاوتي"،أي احمد بن عبد القادر بن مبارك التستاوتي، أحد علماء المغرب العظام ، الذين بحاجة لأقلام الباحثين لنفض تراب النسيان عنهم بدل تركهم يعتصمون بكثير من رفوف مكتباتنا العامة والخاصة من غير تفقد.
وغني عن البيان أن التستاوتي، ولي صالح وعارف استثنائي بمغرب القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وله ذخيرة صوفية ما أحوجنا للاطلاع عليها. ولقد تكرم الأستاذ عبد اللطيف شهبون بتقديم تحقيق ديوان هذا العلم المغربي، وهو تحقيق نم عن اطلاع واسع ومتابعة وخبرة وتمرس ودراية بأسرار العمل المحقق، حقائقه ورقائقه وخصائصه مع قناعة راسخة بأهمية التصوف في بناء الإنسان بل وحضارة أمة.
نذر الدكتور شهبون نفسه للشعر، غارفا من التراث، ماتحا من تكوينه الثقافي ورصيده المعرفي، ناحتا من ذاتيته ووجدانه وفكره، فجادت قريحته بدراسات في الشعر، مثل دراسة في شعر ابن زمرك الأندلسي؛ وهو من كبار الشعراء والكتاب في الأندلس، ونظم دواوين،بلغت شأوا من النضوج الفني،وهي: "كما لو رآني" (2008) "وذاتي رأيت" (2008) و "إليك انتهيت" (2010) ..وآخرها وليس أخيرها إصدار شعري رابع "لم يزل يراك..". وهو من القطع المتوسط وفي78 صفحة ،عن دار سليكي اخوان بطنجة في طبعته الأولى.وهو تجربة شعرية تخمرت من الوجد الصوفي، مرقت فيها اللغة من الحقيقة إلى المجاز، كما انسل الإلهام من عالم الشهادة إلى عالم الغيب.
اتخذ الديوان عنوان: "لم يزل يراك..". وكما يتبدى، فالفاعل ضمير مستتر تقديره: هو. والمقصود:الهو/الكل. أي أن الله يرى ويراقب.والمراقبة، أن تؤمن بأن الله يراك. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(اتق الله حيثما كنت).ومن دعائه: (أسألك خشيتك في الغيب والشهادة).والله سبحانه وتعالى (لاتأخذه سنة ولانوم،يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم..). والديوان في شعر التفعيلة، كسر غل الوزن والقافية، وقد ضم إلى صدره ثمانية وثلاثين قصيدا. وهي بعجالة(وجه-وردة-سلاف-فقد-روح-قصيد-همس-وشم-عصفورة- رحلة-مصاب-ملاذ-انطفاء-جوهر-طي-مراياي- مرآة شوقي مرآة اسطقساتي-مرآة احتراقي- مرآة صبابتي- مرآة تيهي- مرآة حلولي- مرآة طيفي- مرآة غفلتي-مراة تشوفي-توسل-تهيأ-اعطني قبسا-ضوء هارب- مرثية-كالصلاة-كل- مقام- حد- رؤى- رواء-توقد- واخيرا لم يزل يراك.
استهل الديوان "لم يزل يراك.."، بتقدمة رائعة للشاعر عبد الكريم الطبال . وبهذا، فإن الديوان قد اكتسب تزكية ومصداقية أكثر، بالنظر لمكانة شاعرنا الطبال في الفضاء الإبداعي المغربي، هذا فضلا -طبعا- عن أن الرجلين، الطبال و شهبون من أولاد الشاون، التي يقول عنها شاعرنا "كلما دعتني الفرصة لزيارتها، أنقِّلُ قلبي عبر أزقتها لأتغذى من نسائم طفولة هاربة .. وأجدد أحلاما أمسح بها عن حائط نفسي لونها الداكن الحزين". ولقد لقبت الشاون بمدينة الشعر والشعراء، إذ نظمت أول مهرجان للشعر المغربي الحديث في الستينيات من طرف نخبة من الشعراء الشفشاونيين، ثم احتفت في إطار دورتها الثالثة من مهرجان ربيع شفشاون بتجربة ولدها، شاعرنا عبد اللطيف شهبون، تحت شعار"دورة الشاعر عبد اللطيف شهبون".

كانت أول موضوعة في الديوان: "وجه" :(فأينما تولوا، فثم وجه الله) ،(كل شيء هالك إلا وجهه)، ويختتم بموضوعة "لم يزل يراك":(فإن لم تكن تراه ،فإنه يراك).فالله هو المبتدأ وهو المنتهى. ويجعل تقدمة لكل موضوعة من موضوعاته بيت أو مقولة . ويلاحظ بياض كثيف يتخلل الأبيات، ويذيل المقطوعات. والبياض نور وانفراج ضد الحلكة والتكثيف والانسداد، يعبر عن فسحة الروح، عن المحجة البيضاء، عن نجاة الفرد، عن خلاص المجتمع. والفراغ المهيمن على الديوان، فراغ الجنان مع الله (وإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب)..( ربنا أفرغ علينا صبرا)،فذكر الله فراغ من الدنيا وانهماك في أمور النفس، وملء الوقت بما يفرغ الزمان من المكان. وممن رصعوا موضوعات شاعرنا بأبيات أو مقولات من القرن الثاني الهجري: فريد الدين العطار، ومن القرن الثالث الهجري: الحسين بن منصور الحلاج وبشر بن الحارث بن عبد الرحمن المكنى الحافي وأبو بكر الشبلي وأبو الحسن سري بن المغلس السقطي. ومن القرن السادس الهجري: الإمام محيي الدين بن عربي وعبد القادر الجيلاني . ومن القرن السابع الهجري: شهاب الدين السهر وردي المقتول. ومن القرن الثالث عشر الهجري: سيدي محمد الحراق. ومن القرن الرابع عشر: سيدي حمزة القادري بودشيش. ومن القرن العشرين الميلادي: واسيني الأعرج.
وبهذا الكوكتيل من أقطاب التصوف والشعراء الأعلام عبر التاريخ، الذين اختلفت مرجعياتهم الذاتية، من حلول واتحاد ووحدة الوجود، الذين مثل بعضهم شخصيات ثائرة..قلقة في الإسلام، والذين حولوا قوتهم الروحية إلى قوة مادية ونظرياتهم إلى إبداع أصيل،استطاع الديوان أن يفتح شهية ونهما لقراءته ودراسته وتحليله، فهو فريد-بحسب رأيي- في بابه..موضوعاته تستقي من الحكمة الفارسية ، ومعانيه مبتكرة، من التيار الحداثي.تنوع في الحقل الواحد، تفاوت ملحوظ في الطول والقصر أوالشكل ..ونفس ودفقة حرارية شعورية وشعرية، لكن يؤلف بينها إحساس صادق. بعضها تعنونه مقولة أو بيت، وبعضها يذيل بإحالة أو تأريخ أو ذكر مناسبة أو إهداء. نظم شاعرنا ديوانه الرابع "لم يزل يراك.." بمداد قلبه، غارفا من معين ثقافة رباها باليدين، ثقافة واقعية، ثقافة ربانية أثيلة ومكنز صداقات حميمة..
نصوصه، قبسات، نفحات، بارقات عرفانية خصبة ولودة متفتحة منفتحة على أمداء مختلفة، تحمل نفسا صوفيا ينم عن عمق فكري معرفي وثقافي، كلها تصب في مصب واحد، نذر الشاعر نفسه إليه، وتقصده الشاعر في ديوانه منذ البداءة، بلغة رصينة، جزلة، سلسة، منسابة انسياب الماء في جوف الظمآن، تحمل صورا عن الكشف والمشاهدة والالهامات واستعارات بعيدة وخيال خصب، تتوسل وتائر وإيقاعات سريعة تارة، بطيئة أحايين، تفرض دندنة، بل لحنا سهلا على اللسان، طريا على الأذن، من خلاله نستمع إلى نبض قلب الشاعر، إلى سر الوجود.