sábado, noviembre 30, 2013

أسامة الزكاري :من أجل قراءة مجددة للإسطوغرافيات الكلاسيكية



                                                    

أسامة الزكاري                                       
  الملحق الثقافي 28 /11/ 2013

من أجل قراءة مجددة للإسطوغرافيات الكلاسيكية
أسامة الزكاري

لا شك أن قوة الاصطدام الذي عرفته ضفتا البحر الأبيض المتوسط الشمالية والجنوبية عند مطلع العصور الحديثة، قد خلفت رجة عميقة، جعلت الغرب الأوربي يتجه نحو استكناه عتبات فضاءات عوالم ما وراء البحار. ولا شك أن فورة ظاهرة الاكتشافات الجغرافية التي عرفتها أوربا عند بداية القرن 15م، قد ساهمت في فتح الأعين على هول ما كانت تجهله هذه القارة من تفاصيل حول وقائع ضفاف العالم القديم. لذلك، فقد انفجرت موجة من الاستكشاف التدويني  الذي استهدف البحث في مجاهل إفريقيا، وتعميم تداول المعطيات الأساسية حول نظمها المعيشية وخصائصها الطبيعية وموروثاتها التاريخية ومكتسباتها الإثنوغرافية وتحولاتها السوسيولوجية. وقد تجاوز الأمر مستوى التجميع الكمي للمعطيات وللوقائع، إلى توجيه الجهد الرسمي في الاتجاه المذكور، ثم نحو نزول الكنيسة الكاثوليكية بشكل مباشر للإشراف على هذه العملية. ولعل في الظروف التاريخية التي ألف فيها الحسن الوزان، المعروف بليون الإفريقي، كتابه الشهير وصف إفريقيا خير دليل على ما نقول.
ونتيجة لهذا المنحى العام في الاهتمام بتفاصيل واقع عالم ما وراء البحار، تبلورت معالم كتابة إسطوغرافية إيبيرية، أخلصت في الوفاء لشروط المرحلة المرتبطة بضرورات تمهيد المجال لعمليات الغزو والاحتلال التي فجرتها ظاهرة الاكتشافات الجغرافية وظروف بروز التوجه المركنتيلي بأوربا منذ بداية القرن 15 م. وإذا كانت مجمل هذه الكتابات قد احتوت على معطيات مغرقة في التحريف وفي المنحى الانطباعي السطحي وفي الرؤى الغرائبية المثيرة، فالمؤكد أن القراءة المتجددة لهذه النصوص، تفتح الأعين على قضايا هامة داخل بنية المتون نفسها، خاصة على مستوى رصد مظاهر تغير رؤى « الآخر» الغازي لواقع بلاد المغرب المنغلقة على سكونها والمخلصة لثوابتها والمطمئنة ليقينياتها. لذلك، فإن البحث التاريخي الوطني الراهن قد أضحى أكثر انفتاحا على هذا المجال، من خلال تجاوز الأحكام السريعة حول أخطاء هذه الكتابات وحول نزوعاتها الموجهة، حيث بدأ التوجه للارتقاء نحو اكتساب آليات تفكيك مضامين هذه المتون وربطها برؤى منهجية حديثة في استيعاب الرموز والسياقات داخل نسق المسار العام الذي صنع أحداث المغرب خلال مطلع العصور الحديثة، في علاقة مكوناته الداخلية مع بعضها البعض، ثم في علاقة الدولة بتحولات محيطها المتوسطي الواسع. ونتيجة لهذا الوعي المتزايد بأهمية تجديد قراءة الإسطوغرافيا الإيبيرية الحديثة لمطلع عصر النهضة الأوربية، صدرت العديد من الترجمات العلمية الرصينة لأمهات التصانيف الكلاسيكية ذات الصلة، مثلما هو الحال مع كتاب
وصف إفريقيا للحسن الوزان وكتاب مؤرخو الشرفاء لدييغو دي طوريس وكتاب حوليات أصيلا  لبرناردو رودريغيس ... ولعل في تزايد إيقاع صدور هذه الترجمات العربية دليل على أهمية توجيه الجهد نحو نقل هذه الذخائر إلى اللغة العربية، تمهيدا لإعادة تنظيم الاشتغال العلمي على خباياها، تفكيكا للرموز وتحليلا للسياقات وتركيبا للوقائع وتوظيفا للخلاصات.
في إطار هذا التوجه العلمي الأصيل، يندرج صدور الترجمة العربية لكتاب الوصف العام لإفريقيا  للويس ديل مارمول كارباخال، خلال مطلع سنة 2013، بتوقيع الباحثين إدريس الجبروني ومحمد القاضي، في ما مجموعه 498 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. ويمكن القول إن صدور هذه الترجمة العربية يشكل أحد أبرز الوقائع العلمية التي طبعت سنة 2013، ليس  فقط على مستوى النجاح في تعريب نص إسباني عميق حول واقع بلاد المغرب خلال القرنين 15 و16 الميلاديين، ولكن أساسا لما يمكن أن يفتحه هذا العمل من آفاق واسعة لإعادة مقاربة واقع المغرب خلال الفترة المذكورة، خاصة على مستوى تطور نزعات التدافع الحضاري للمرحلة، وهي حالة التدافع التي كان المؤلف شاهدا عليها، بل وفاعلا فيها في الكثير من الحالات. فقد كان مارمول كارباخال، المزداد سنة 1520 م والمتوفى سنة 1600 م، عسكريا ومؤرخا وكاتبا إسبانيا شهيرا، عمل في الخدمة العسكرية مع الملك كارلوس الخامس والملك فليبي الثاني، وشارك في الحملات العسكرية على إفريقيا وإيطاليا، إذ قضى ثمان سنوات بسجن الجزائر حيث تعلم اللغة العربية. وقد استفاد من تجربته الإفريقية الواسعة لتأليف كتاب الوصف العام لإفريقيا  الذي يتكون من ثلاث كتب، تناول فيها الحقبة الممتدة من ظهور الإسلام بشبه الجزيرة العربية إلى نهاية القرن 16 م. وقد سعى في ذلك إلى تجاوز بعض ما أغفله كتاب  وصف إفريقيا، ثم وضع تصنيف إجرائي حول واقع شمال القارة الإفريقية، وتحديدا بلاد المغرب، وهو التصنيف الذي كان من المفروض أن يكون أداة في يد رواد مشاريع الهيمنة التجارية والغزو العسكري بإسبانيا خلال المرحلة المذكورة.
تحتوي الترجمة العربية للكتاب على كتابين منفصلين، اهتم أولهما بضبط اسم إفريقيا حسب ما ورد في النصوص القديمة، الإغريقية واللاتينية تحديدا، كما اهتم بتصنيف معطياتها الطبيعية والبشرية وعاداتها الإثنوغرافية وظروف تساكن عناصرها الأمازيغية أو البربرية حسب تعبير المؤلف والعربية، وأخيرا سعى المؤلف إلى إبراز ملابسات اكتشاف أمير البرتغال دون هنري للشواطئ الغربية لإفريقيا، في سعيه نحو اكتشاف الطريق المؤدية إلى الهند. وفي الكتاب الثاني، انتقل المؤلف للحديث عن تجربة حكم دولة المرابطين، ثم الموحدين، فالمرينيين، والوطاسيين. وقد ركز في ذلك على إبراز مظاهر تفكك هياكل الدولة المغربية على عهد بني وطاس، خاصة مع استفحال الأزمات البنيوية لمقومات هذه الدولة، وتحديدا على مستوى العلاقة مع القبائل، وعلى مستوى مشاكل ولاية العهد ونزاعاتها اللامتناهية، وكذا على مستوى تدبير أوضاع البلاد في سياق استفحال مشاكل الكوارث الطبيعية مثل الجفاف والقحط وزحف الجراد، وأخيرا على مستوى رصد أوجه العلاقات الخارجية المتغيرة مع القوى الفاعلة في الجناح الغربي للبحر الأبيض المتوسط، ونقصد بها كل من الدولة المغربية والدولة العثمانية والدولة الإسبانية.
وبتقديم هذه الترجمة العربية المتميزة لكتاب الوصف العام لإفريقيا، أمكن للأستاذين إدريس الجبروني ومحمد القاضي تحقيق قيمة مضافة لمجال فعل الترجمة العلمية المغربية الراهنة. وبذلك، فقد ساهما في سد بعض فجوات الفراغ المهول الذي يعرفه هذا الميدان، بانعكاسات ذلك على تطوير شروط تلقي المادة الخام الإيبيرية، والكلاسيكية تحديدا، الراصدة لإبدالات واقع بلاد المغرب في ظل تحولات عوالم الاكتشافات الجغرافية وبداية الانقلاب الشامل في موازين القوى داخل البحيرة المتوسطية، وهو الانقلاب الذي لم تزده الوقائع اللاحقة إلا تجذرا وترسخا في سياق تداعيات انفجار آلة الغزو والهيمنة المركنتيلية لفجر العصور الحديثة.


11/28/2013