يعتبر الباحث الإسباني غييرمو غوثالبيس بوسطو واحدا من بين أكثر المؤرخين الإسبان المعاصرين اطلاعا على قضايا التاريخ المشترك بين إسبانيا والمغرب. فبفضل مساره المهني والعلمي الطويل والممتد في الزمن، استطاع أن يحقق تراكما هائلا من الأعمال المؤسسة التي أعادت النظر في الكثير من مسلمات المصنفات والإسطوغرافيات الإيبيرية الكلاسيكية، وفق جرأة معرفية مجددة ونزاهة فكرية استثنائية، نجحت في تجاوز الكثير من عوائق الكتابة التاريخية الإسبانية حول المغرب وتحولات ماضيه وإفرازات واقعه، وهي العوائق التي ظلت وفية لأحكامها الجاهزة ولتنميطاتها المستنسخة حول هذا «الجار المقلق»، حسب التعبير الأثير لبعض الأٌقلام الإسبانية الراهنة. لقد آمن غييرمو غوثالبيس بوسطو بحقيقة المشترك الإسباني المغربي الممتد في الزمن والضارب في الجذور والمستشرف لآفاق المستقبل. فقرر السباحة ضد التيار، مستندا في ذلك إلى حس معرفي/ تربوي رفيع، وإلى روح نقدية لم تكن تجد أي حرج في خلخلة يقينيات الضمير الجمعي الإسباني، وفي مساءلة الأطروحات الكولونيالية الكلاسيكية والمجددة التي ظلت تشتغل على قضايا ماضي المغرب وعلى إسقاطات ذلك على واقع العلاقات الهشة التي أضحت تجمع بين البلدين الجارين خلال زماننا الراهن.
وفي كل ذلك، ظل هذا الباحث يستند إلى زاد أكاديمي محترم، وإلى حب كبير للبلد الذي ولد فيه وقضى بين أحضانه فترات طويلة من عمره، فهو من مواليد مدينة سبتة سنة 1916، حصل على دكتوراه في القانون والتاريخ، ثم على الإجازة في اللغات السامية وفي القانون والاقتصاد، اشتغل في التعليم وفي مجال الإشراف على المكتبة العامة الإسبانية بتطوان لمدة زمنية طويلة امتدت بين سنتي 1935 و1985. كما أشرف من موقعه هذا على إصدار دورية «دفاتر المكتبة الإسبانية بتطوان» كمجلة متخصصة في التاريخ العربي، إلى جانب انخراطه في العديد من الهيآت العلمية الإسبانية والدولية، وإصداره للعديد من الأعمال التاريخية المتخصصة، مثلما هو الحال مع كتاب «الجمهورية الأندلسية بالرباط في القرن السابع عشر»، وكتاب «الموريسكيون في المغرب»، وكتاب «المنظري الغرناطي مؤسس تطوان»، وكتاب سبتة: بين البرتغال وإسبانيا».

ونظرا لهذه التجربة الأصيلة في البح


ث وفي التنقيب وفي التأليف حول ماضي المغرب، استطاع المؤلف أن يحقق ارتباطا روحيا بالمغرب وبفضاءاته وبوجوهه، الأمر الذي يسمح بالقول إنه أضحى مغربي الهوى، على مستوى اهتماماته وانشغالاته ومشاريعه. ولعل هذا ما أدركته الكلمة التصديرية للكتاب موضوع هذا التقديم، عندما قالت: «ما هي الدوافع التي دعت باحث إسباني كبير مثل غييرمو غوثالبيس بوسطو إلى الاهتمام بتاريخ المغرب الذي أحبه وعاش في أحضانه لمدة تزيد عن ستة عقود، حيث اتخذ من مدينة تطوان مقرا لإقامته مدرسا، وباحثا في تاريخ المغرب الذي استأثر به، وملك عقله، فكان خير نموذج للباحثين الموضوعيين الذي تناولوا تاريخ المغرب وإسبانيا…».
وعلى الرغم من أن كتاب «دراسات حول المغرب في العصر الوسيط» قد صدر في شكل دراسات متفرقة خلال سبعينيات وثمانينات القرن الماضي، فإن تجميعها في هذا العمل، أضفى عليها راهنية أكيدة، ثم إن ترجمتها إلى اللغة العربية بتوقيع للأستاذين إدريس الجبروني ومحمد القاضي، يشكل قيمة مضافة لمجال الدراسات التاريخية الوسيطية، خاصة منها تلك المهتمة برصد إبدالات العلاقات المغربية الإيبيرية، وأشكال الحضور الموريسكي في الضفتين المتوسطتين، وآثار التبادل الثقافي واللساني والأنتروبولوجي بتعبيرات شتى عن قيمه المشتركة سواء بالمغرب أم بإسبانيا. ولعل من عناصر القوة في هذه الأعمال، ارتكازها إلى أمهات المصادر العربية والإسبانية، وعلى رصيد هائل من المستندات غير المتداولة على نطاق واسع بالمغرب وبإسبانيا، الأمر الذي سمح بتوفير مادة مصدرية غنية ومتنوعة، مهدت لإجراء التدقيقات المطلوبة والتشريحات النقدية الضرورية المؤطرة لمثل هذه الأعمال.
ويقدم هذا الكتاب، الصادرة ترجمته العربية سنة 2016، في ما مجموعه 434 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، صورة عن نسق الاشتغال المنهجي الذي ولع به المؤلف. فالعمل يعتمد على أمهات المصنفات التاريخية العربية، مثل كتابات ابن خلدون وابن حوقل وابن أبي زرع والبكري، إضافة إلى رصيد الكتابات الأجنبية المجددة، مخضعا مادته لمقاربة مقارناتية وتحليلية، تعيد مساءلة الثوابت ومناقشة المسلمات المتوارثة. وقد وزع المؤلف عمله بين محاور مركزية، اهتمت بتقديم دراسات حول قضايا قطاعية ومونوغرافية خاصة بماضي المغرب الوسيط. وداخل هذا المسعى، تحضر منطقة الشمال، باعتبارها موجهة للكثير من معالم التحول الحضاري الذي عرفه المغرب خلال العصر الوسيط، خاصة في علاقته بجيرانه الإيبيريين. في هذا الإطار ، نجد تفاصيل مثيرة حول المغرب الروماني، والفتح الإسلامي، وإمارة النكور، والدار البيضاء خلال العصر الوسيط، ثم طنجة، وأصيلا، والقصر الكبير، والقصر الصغير. إلى جانب حرص واضح على تتبع مظاهر الحضور الموريسكي والأندلسي داخل الفضاء العام لمنطقة الشمال، وخاصة على مستوى التراث الثقافي المادي والرمزي، مثل الطبخ واللباس والتنظيم العمراني. وبشكل مواز لهذه المحاور، اهتم المؤلف بإبراز مكونات العامل السوسيولوجي-الديني في تاريخ المغرب، من خلال قضايا مفصلية، مثل الإسلام الخوارجي، ووضع الشرفاء والزوايا، وامتداد حروب الاسترداد في الذاكرة الجماعية المشتركة بالمغرب وبإسبانيا.
وللاقتراب من سقف الكتابة والنبش المؤطرين لمضامين الكتاب، يمكن أن نستدل ببعض مما كتبه المؤلف في الفصل المعنون ب»أصيلا في العصر الوسيط»، ففي ذلك اختزال لمجمل الخصائص المنهجية التي حددنا معالمها أعلاه. يقول المؤلف: «سواء أكان ذلك حقيقة أم لا، ما أكده الجغرافي أبو عبيد البكري من القرن الحادي عشر الميلادي على أن مدينة أصيلا كانت موجودة في عهده، حديثة التأسيس، فإننا لا نتوفر في الحقيقة على معلومات عنها إلى غاية الفترة الإسلامية. ويمكننا الحديث عن أصيلا بيقين تام في الحقبة الإسلامية المعروفة اليوم «أرثيلا» بالإسبانية. إن غالبية المؤرخين يقولون بأن أصيلا، كانت قديما هي زيليس الرومانية. ومع غياب بقايا الآثار الرومانية المهمة، واعتبارات أخرى،… والتي ذهبت بباحث حديث إلى إنكار أن تكون المدينة ذات أصل روماني. فمدينة زيليس كانت حسب رأيه تقع في المساحة الشاسعة لبقايا الأنقاض في أحد الغربية، المعروفة بأدميركوري، كان لها مدخل بحري عبر نهر تاهدارت. صدقية هذه الأطروحة تقوم على بعض المعطيات، كما حددها بطليموس بأنها كانت توجد داخل الأراضي، وليست على الساحل، وذكرها ابن حوقل، جغرافي من القرن العاشر، بزلول، وهي إشارة إلى زيليس، كمدينة رائعة شرق أصيلا، واصفا إياها مباشرة كمدينة مختلفة عن مدينة أصيلا… وحسب التسلسل التاريخي فإن الجغرافي ابن حوقل، هو الذي يحدثنا عن المدينة المحاطة بسور حجري، في قمة جرف، كثير الحبوب في منطقته. هذه الثروة جعلت منها مركزا للتسويق. أما مياهها فعلى عكس زلول، تجلب من الآبار، ويصفها بأنها مياه صافية وعذبة، ولكننا نكرر، بأن أول من زودنا بوصف دقيق، محاولا تأريخ بداية المدينة، فهو البكري، المدينة التي نفصلها ذهنيا عن زيليس الرومانية، يبدو أن البكري، لم يكن يتوفر على أدنى خبر عنها…» (ص ص. 247-249).
وعلى هذا المنوال، تنساب حكاية أصيلا، لتقدم متنا شيقا، بأفق رحب للتدقيق في التفاصيل، ولتحقيق المعطيات والوقائع والأعلام المكانية والبشرية، ولتصحيح الأخطاء التاريخية المتوارثة، عبر رسم معالم عطاء المدينة خلال مرحلة انتقال تاريخي وسيطي حاسم ببلاد الغرب الإسلامي الواسع والممتد بالضفتين الشمالية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. وإذا أضفنا إلى ذلك، قوة الترجمة العربية للأستاذين الجبروني والقاضي، أمكن القول إن الكتاب يشكل تعزيزا للمكتبة المغربية، وإضافة هامة، لا شك وأنها توفر عناصر التأمل الضرورية لتفكيك طلاسم البحث المونوغرافي والطوبونيمي والحضاري لمغرب قرون العصر الوسيط، وخاصة بمنطقة الشمال بامتداداتها الإقليمية والجهوية والوطنية الواسعة.