viernes, junio 27, 2014

LA CULTURA DEL ENVASE, Eduardo Galeano

"Estamos en plena cultura del envase. El contrato de matrimonio importa más que el amor, el funeral más que el muerto, la ropa más que el cuerpo y la misa más que Dios”

lunes, junio 23, 2014

د. مصطفى الورياغلي العبدلاوي 'عيطة تطّاون' للإسباني بينيتو بيرث غالدوس: عن الصورة النمطية للمسلمين

'عيطة تطّاون' للإسباني بينيتو بيرث غالدوس: عن الصورة النمطية للمسلمين
د. مصطفى الورياغلي العبدلاوي
2012-02-14


 


لابد من الإشارة في البدء إلى أهمية السياق الثقافي الذي ترد فيه ترجمة هذه الرواية؛ فنحن في حاجة ماسة إلى هذه الترجمات؛ أولاً لأن الأدب الإسباني، بجناحيه الإيبيري والأمريكي، يعتبر من أهم روافد الأدب الإنساني اليوم، والقارئ العربي عموماً، والأديب على وجه التخصيص، في حاجة كبيرة إلى النهل من تقنياته وأساليبه الفنية وقيمه الجمالية والإنسانية.
ونحن في حاجة إلى هذه الترجمات ثانياً لأن الروابط التاريخية والثقافية التي تجمعنا بالضفة الشمالية للبوغاز امتزجت وتفاعلت عبر فترات طويلة من التاريخ القديم والحديث، بحيث إن كل طرف لا تستقيم صورته ولا تكتمل إلا باستحضار الآخر ومحاورة تاريخه وحاضره المشتركين.
وتكمن أهمية هذه الرواية أساساً، بالنسبة إلى القارئ العربي والإسباني على السواء، في تلك الصورة الروائية التي يشكلها الكاتب عن المغرب والمغاربة. وتندرج هذه الصورة ضمن تقليد أدبي ساد المتخيل الإسباني، أخذت ملامحه في التشكل منذ 'دون كيخوته سيرفانتيس'، واستمرت في التخلق والتلون وَفق تطور مسار العلاقات المغربية الإسبانية وسياقات التاريخ المشترك بين الضفتين، وبلغ أوجهُ في ما يعرف بالرواية الإسبانية الاستعمارية، التي تناولها الدكتور محمد أنقار، بكثير من التحليل والتمحيص، في كتابه -الأطروحة حول بناء الصورة في الرواية الاستعمارية.(2)
فرواية 'عيطة تطاون' يمكن تقسيمها، وفق هذا المنظور إلى قسمين:
تدور أحداث القسم الأول في إسبانيا سنة 1859، أي قبيل الحملة العسكرية الإسبانية على تطوان. وهكذا يرى القارئ المجتمعَ الإسباني وهو يستعد للحرب، والدولةَ تذكي الحماس وتحشد القوات للعبور إلى المغرب وإخضاعه انتقاماً لشرف إسبانيا الذي أهين، وتأديباً للمغاربة أو 'الموروس' الذين تجرأوا على تحدي الوجود الإسباني في سبتة.
ويصور الكاتب أجواء الاستعداد للحرب والموقف منها بتركيزه على أسرة أنصوريث ومن يخالطها من أصدقاء ومعارف، إذ الكل مغمور بحماس الحرب الذي تواطأ الساسة ورجال الدين على إذكائه في قلوب عامة الناس، فصوروا الحرب بعثاً لمجد إسبانيا وتحقيقاً لأحلام تاريخية راودت ملوكها وقادتها في قهر المسلمين خلف البحر بعد أن طردوهم من ديارهم. ويصور سانتيوستي الشاعر وصديق الأسرة ذلك الشعور العام في خطبة حماسية قائلاً: 'يا له من مجد أن نرى في عصرنا أن جندي قشتالة قد بُعث، القشتاليُّ 'السِّيد 'Cid، أن نراه بجانبنا ونلمس يده بيدنا، ويمكننا أن نعانقه ونباركه في الواقع، لا في الكتب والأوراق! أحيوا العهود الماضية في الحاضر.[...] الملحمة التي كنا قد أبعدناها من القصائد الغنائية عادت إلينا آخذة من اليد صورة تلك الملكة القديسة السامية التي رفعت روحها أعلى من جميع الملوك الذين حكموا هذه البلاد، والتي حين غرست الصليب في أسوار حصون غرناطة ظانة أن عملها التاريخي لم يكتمل بمفخرة عظيمة، وبجرأة كبيرة وطموح ديني وسياسي أشار لنا إلى إفريقيا كنهاية وتكملة للتراب الإسباني. وحين طارت من هذا العالم نحو السماء حيث تنتظرها جائزة فضائلها، أمرت 'إيزابيل Isabel' ورثتها بأن يأخذوا من أصحاب الهلال التراب الموريطاني، ويُكونوا مملكة إسبانيا المستقبلية بطرفي القارتين'.(ص39(
وتظهر في هذا الفصل نزعة غالدوس الإنسانية ومقتُه للحرب باعتبارها حماقة تنجر إليها الشعوب مدفوعة بحماسة عواطفها من دون إدراك لدوافعها الحقيقية، وهي دوافع مادية نفعية في غالب الأحيان. فأنصورث الشيخ، على الرغم من اشتراكه في حماس الحرب، يشير إلى تلك الحقيقة التي لا ينتبه إليها الآخرون ولا يأبهون لها، وهي أن الدافع الحقيقي إلى إعلان الحرب ضد المغرب ليس الانتقام لشرف إسبانيا، الذي خدشته قبيلة أنجرة 'بانتهاكها حرمةَ بعض الحجارات' في سبتة بتعبير الكاتب، أو تحقيقَ أحلام دينية ووطنية قديمة، بل دافعاً سياسياً بالأساس، تمثل في تجاوز الصراعات داخل المجتمع الإسباني والالتفاف على مطالب الأحزاب السياسية. فإعلان الحرب لم يكن سوى فعل سياسي ماكر يصبو إلى 'إذكاء الوطنية والوصول بالإسبانيين جميعهم إلى التفكير في شيء واحد، والإحساس بنفس الشيء، كما لو أن قلباً واحداً وُجد لصدور عديدة، وبفكرة واحدة تُنار جميع العقول.'.(ص38) وهكذا سقطت الأحزاب الإسبانية في خدعة الجنرال أودونيل، وردد زعماؤها في البرلمان نفس الأناشيد التي كان يتغنى بها رجال الكنيسة فوق منابرهم، فيخطب أحدهم قائلا: 'إن أصبع الله يبين لنا الطريق الذي يجب أن نسير عليه لإبادة المسلمين'.(ص50(
وتتأكد تلك النزعة الإنسانية لدى الكاتب بواسطة تصويره الساخر لحماسة العامة 'الذين يتصرفون ويتكلمون تقريباً مثل الأطفال الذين يشهرون سيوفاً من قصب وسط الشارع ويعلون قاماتهم بخوذات عالية من الورق'،(ص49) كما تظهر نزعته الإنسانية في نقده لتلك التصورات السائدة عن المغاربة المسلمين باعتبارهم جنساً متوحشاً نقيضاً وعدواً للإسباني المسيحي، حيث يرد في الرواية على لسان الشيخ أنصورث أن 'المغربي والإسباني أخوان أكثر مما يبدو. اطرحوا قليلا من الدين وقليلا من اللغة، وستبدو القرابة جلية'.(ص25(
فإذا انتقلنا إلى القسم الثاني من الرواية، والذي تدور أحداثه بداية في مشارف مدينة تطوان ثم في داخل المدينة ذاتها، بدت الرواية لأول وهلة محافظة على نزعتها الإنسانية، حيث يتحول الشاعر سانتيوستي من صوت متحمس للحرب إلى داعية للسلام بعد أن شاهد آثار الحرب، فسار يؤكد 'أن الحرب لعبة سخيفة، ضد شريعة الله وضد الطبيعة نفسها. أؤكد لك، يقول الشاعر لصاحبه، أنني حين رأيت هذه الأيام عدداً لا يحصى من الموتى الذين مزقهم الرصاص لم أحس الشفقة نحو الإسبانيين أكثر من المغاربة. شفقتي تمحو الجنسيات والسلالات، التي لا تعدو أن تكون خدعاً. لقد أحسست نفس الشفقة نحو الإسبانيين والأفارقة'.
فهذه النزعة الإنسانية المبشرة بالسلام بين الأمم والمساوية بين الأجناس والشعوب توحي بتوجه الرواية نحو تمثيل متوازن لصورة الآخر المغربي المسلم وتجاوز الصورة الاستعمارية السلبية، غير أن هذا التوقع يخيب عندما تتجاوز أحداث الرواية أسوار مدينة تطوان وتميل صورة الآخر المغربي إلى الاختلال. فمن جهة يغيب صوت المغربي في تصوير الأحداث، حيث ينوب عنه صوت شخصية سيدي الحاج محمد بن صور الناصري، وهو صوت مزيَّف، يوهمنا في البداية أنه يمثل وجهة نظر مغربي مسلم غيور على بلده، كاره للمستعمر المغتصب، غير أن تطور الأحداث يكشف حقيقته الدفينة؛ فهو ليس إلا غونثالو Gonzalo أخ لوثيلا أنصورث، الذي تظاهر باعتناق الإسلام ليكسب ثقة المغاربة وينجح في بناء الثروة والجاه عن طريق التقرب من السلطان؛ فهو نفسه يعترف أن كل ما رواه عن أحداث حرب تطوان، والمتضمَّن في رسالته إلى صديقه الزبدي من أعيان فاس، ليس إلا نفاقاً وزيفاً يخدع به قارئه المسلم بعد أن نمقها باستشهادات من القرآن، بينما تخفي في عمقها، كما يعترف السارد، أفكاراً مسيحية، وكلَّ المعارف التي يأتي بها الواحد إلى العالم منذ أن يُعمَّد ويُنصّر.(ص275) ومن ثم لا يُمنح المغربي فرصة أو حق المشاركة في بناء الصورة وتلوينها بمنظوره ورؤيته للأحداث.
ومن جهة ثانية لا تُفلح نزعة الكاتب الإنسانية في تجاوز مسكوكات الصور الاستعمارية عن المغاربة والمسلمين، لأن تلك الصور كانت تندرج ضمن بناء ثقافي استعماري يطبع روح العصر في أوروبا ويتغلغل في أساس تصورات كتابها ومثقفيها وعامتها عن المغاربة والمسلمين. ولا يتسع المجال هنا لسرد كل تلك المسكوكات السلبية التي ساهمت في تشكيل صورة المغربي في هذه الرواية، والتي يمكن تلخيصها في محاور الحسية الشرهة، والاتكالية القدرية، والمكر والنفاق المتأصلين في طبع الإنسان المغربي، والبعد عن التحضر والتمدن.
أما السلام الذي كان يتغنى به الشاعر سانتيوستي، نبيُّ السلام، ويبشر به المغاربة فليس سوى السلام الذي تحققه إسبانيا للمغاربة بعد إخضاعهم، حيث يصيح في آخر الرواية مبتهجاً بسقوط تطوان في يد الإسبان: 'ها نحن في تطوان، ها تطوان ملكنا، افرح أيها الناصري، ولنحتفل معاً بنصر إسبانيا وبالسلام'.(ص246(
وفي الأخير لابد من التنويه بعمل المترجم الأستاذ عمر بوحاشي؛ أولاً لتوفقه في انتقاء رواية 'عيطة تطاون' لما لها من قيمة أدبية وتاريخية وثقافية،. وثانياً لبراعة ترجمته التي عرفت كيف تحافظ للعمل الأصلي على روحه وسماته ومقاصده، من غير أن تستلبه اللغة الإسبانية المترجمُ عنها، حيث حافظت ترجمته للغة العربية على أصالة تراكيبها، ورونق أساليبها وإشراق لغتها.

إحالات
(1)
بينيتو بيرث غالدوس،عيطة تطّاون، ترجمة عمر بوحاشي، منشورات ليتوغراف، طنجة- المغرب 2011
(2) محمد أنقار، بناء الصورة في الرواية الاستعمارية، صورة المغرب في الرواية الاسبانية، مكتبة الإدريسي للنشر والتوزيع. تطوان. الطبعة الأولى. يناير 1994 .

الرواية التاريخية والتباس الخطاب الاستعماري


الرواية التاريخية والتباس الخطاب الاستعماري
الوقائع التاريخية تهيمن تماما على صياغة النسيج التخييلي للأحداث
 في رواية عيطة تطوان

ابراهيم الخطيب * 
يعتبر بينيطو بيريس غالدوس، في تاريخ الادب الاسباني المعاصر، نظير بلزاك، فقد كان همه الأساسي وضع سلسلة روائية تعكس صيرورة التطور السياسي والتاريخي والوجداني لإسبانيا خلال القرن التاسع عشر شأنها في ذلك شأن «الكوميديا الانسانية». ومع أن تأثير نصوصه ظل محدودا في مضمار اسبانيا وبعض البلدان الناطقة بالإسبانية، إلا أن عمله الادبي كان صورة دالة على تطور الوعي الاشكالي لدى الطبقات المثقفة الاسبانية منذ معركة «الطرف الأغر» (ترافلغار) الى عودة الملكية الألفونسية.
تتألف السلسلة الروائية «أحداث قومية» من 45 رواية، وتعتبر «عيطة تطوان»Aita Tettaouen (العيطة كلمة مغربية دارجة تعني، في معناها المستعمل النداء، وفي معناها المهجور: الحرب أو الجهاد)، التي تصف حرب احتلال المدينة المغربية سنة 1860، لمدة عام واحد، صياغة ضمنية لنمو الطموحات الايديولوجية التي واكبت بروز المشروع الاستعماري الإسباني في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. من هنا أهمية هذا النص الذي كتب قبل مائة عام، وبالضبط سنة 1904، أي ثماني سنوات قبل فرض الحماية الاسبانية على شمال المغرب.
على عادة الكتاب الطبيعيين، وضع الكاتب لروايته مسودة دقيقة تشمل القسم التاريخي، الذي خصه بعناية كبيرة، والقسم الاجتماعي ـ التخييلي الذي يلاحظ بعض النقاد أنه لم يحالفه التوفيق في صياغته. فبخصوص المادة التاريخية للرواية، اعتمد غالدوس على مصادر ووثائق متنوعة، أبرزها: كتاب «وصف حرب افريقيا»، وهو سفر ضخم زين بعشرات الخرائط والرسوم، وضع بعيد الحرب من طرف ضباط وموظفين رسميين اسبان، ثم كتاب «يوميات شاهد على حرب أفريقيا» لبيدرو انطونيو ألاركون، وهو مستشرق اسباني رافق الحملة على المغرب وسجل انطباعاته المباشرة عنها في كتاب «الاستقصاء» (الجزء الخاص بالدولة العلوية). وبما أن غالدوس لم يكن على دراية باللغة العربية فقد استعان في الاستفادة من كتاب «الاستقصا» بمستعرب اسباني من مواليد طنجة هو ريكاردو رويث اورساتي ترجم له القسم الخاص بحرب تطوان. وتجب الاشارة الى أن المصادر العربية استعملت بصفة استثنائية لصناعة الفصل الثالث من رواية «عيطة تطوان»، وهو الفصل الذي يروي ـ خلافا لبقية الفصول ـ على لسان مولد اسباني مسلم هاجر الى المغرب ويدعى «الحاج محمد بن سور الناصري».
أشرنا قبل قليل الى أن السنوات الاولى من القرن الماضي شكلت السياق الزمني لصوغ مادة الرواية وكتابتها. ويبدو أنه من الضروري القول بأن هذا السياق، الذي كان يعتمل بتطورات دبلوماسية وتقلبات سياسية حاسمة، قد ألقى بظلاله على عملية الكتابة ووضع تخييل التاريخ في حالة احتكاك مع الواقع اليومي. هكذا يخيل إلينا أن غالدوس، المسيس بامتياز، لم يكتب روايته فقط تحت تأثير ذكريات الحرب التي، كما يقول فيغيراس في كتابه «المغرب» Marruecos «تواصلت في اسبانيا الى نهاية القرن التاسع عشر بعد أن حمل أصداءها الى منازلهم أولئك الجنود الذين شاركوا في الحملة...»( ص 82)، وإنما أيضا تحت تأثير اتفاقيات عديدة بين الدول الاستعمارية في ذلك الوقت التزمت فرنسا في إحداها بمراعاة «الحقوق المشروعة» لإسبانيا في الشاطئ الشمالي للمغرب.
تلتزم «عيطة تطوان»، على صعيد بنائها السردي، بناء متتابعا للوقائع حسب التسلسل الزمني، ويمكننا أن نلاحظ في هذا الصدد أن الوقائع التاريخية تهيمن تماما على صياغة النسيج التخييلي للأحداث. هكذا تبدأ الرواية بإعلان الحرب على المغرب، وعلى إثر ذلك يظهر بطل الرواية «خوان دي سانتيوستي» الذي سيتغنى، على نحو ملتبس يجمع بين السخرية والحماس، بمعارك اسبانيا الظافرة في استرجاع الاندلس أو في نشر عقيدة المسيح بالقوة في أميركا اللاتينية; قبل أن يشعر بفظاعة الحرب على مشارف تطوان وضواحيها عندما يرى الارض مزروعة بجثث المغاربة والاسبان. إن ضعف الخاصية الواقعية لتلك الشخصية لا يمكن تأويله إلا على ضوء هيمنة المنظور التاريخي من جهة، ومن جهة أخرى على ضوء الوظيفة الوجدانية، المسندة إليها من طرف الكاتب، والمتمثلة في شعور «خوان» بالتناقض بين الحرب كحماسة وطنية، وبينها كوقائع قتل وتدمير خالية من أي حس إنساني. ويبدو لها أن النزوع الى السلام الذي يميز خطاب الرواية على هذا المستوى إنما يستقي معناه الحقيقي من هذا الاختلال الجسيم بين رؤية الواقع الروائي كتاريخ، ورؤية التاريخ كواقع روائي.
تتطور الأحداث، زمنيا، انطلاقا من أكتوبر 1859 الى غاية فبراير من سنة 1860. ويجدر بنا أن نشير الى أن أحداث الفصل الثالث من الرواية (وهو الفصل الذي يرويه الحاج محمد بن سور الناصري كما سبقت الاشارة) يتم التأريخ لها حسب التقويم الهجري. إن هذا التأطير الزمني الذي يعكس مراحل خروج الجيش الاسباني من مدريد متوجها برا الى قادس ثم بحرا الى سبتة، قبل بدء توغله داخل الاراضي المغربية واشتباكه بالمقاتلين المغاربة في ضواحي تطوان ثم دخوله الى هذه المدينة ظافرا، يشكل، بحركيته اللاهثة، خاصة على صعيد ارتباط المكان بمواجهة الاخر، سياق الرجة العنيفة التي فجرت بسرعة وحدة كوامن الالتباس في شخصية «خوان دي سانتيوستي» ما أدى به الى الفرار من الجيش، والتسلل الى تطوان في زي بدوي يحمل اسم «يحيى» وينطوي على ازدواج لا رجعة فيه: ازدواج المحارب والضحية.
ويعتبر الفصل الثالث من «عيطة تطوان» رؤية داخلية الى تطوان وهي تواجه الحرب، بمعنييها: حرب انتظار انقضاض الجيش الاسباني، وحرب الفوضى والسلب والنهب من طرف عصابات مقبلة من مناطق جبالة والريف. في البداية تهيمن على خطاب الراوي لهجة متحمسة تستقي مجازاتها من الموروث الديني الاسلامي المتسم بالتفاؤل إزاء مآل الجهاد ضد الكفار، لكن هذه اللهجة سرعان ما يخيم عليها اليأس والكآبة عندما تبدأ المعارك الاولى فيلاحظ «الناصري» سوء نظام المقاتلين المغاربة، وتخاذل بعض المتطوعين، ورداءة الاسلحة المستعملة، وضجر الجالية اليهودية من عسف البدو النهابين. تتحول تطوان الى متاهة مهجورة، فقد غادرتها العديد من الأسر في اتجاه طنجة أو شفشاون، وها إن منازلهم قد تحولت، بعد أن نهبت أبوابها، الى مراتع للمشردين والهائمين على وجوههم. إن الفصل الثالث، المكتوب على شكل تقارير موجهة إلى مفوض ملك المغرب في طنجة، يبرز أن حرب تطوان كانت، في العمق، حربا أهلية بين المسلمين بعضهم وبعض وبيهم وبين الجالية اليهودية فضلا عن كونها حربا خاسرة ضد معتدين أجانب يحملون شعارات صليبية.
بقي أن نتساءل عن معنى حرب تطوان في رواية غالدوس.
ولا بد من الاشارة الى أن تركيب الرواية لا يعتمد على أي تحليل سياسي يبرر تصرف شخصياتها أو تقلباتهم المفاجئة على نحو مدقق. لكن هذا لا ينفي، بطبيعة الحال، أن الرواية، ككل كتابة تخييلية، تردد ضمنيا أصداء الخطابات التأويلية السائدة ليس فقط إبان الجريان الفعلي لحرب تطوان، وإنما أثناء عمل غالدوس على روايته بعد مرور خمس وأربعين سنة على نهاية تلك الحرب.
ومع أن الدلالة الدينية للتدافع حاضرة منذ بداية الرواية والى مراحلها المتأخرة ـ باعتبار أن حرب تطوان هي استمرا لحرب استرجاع الاندلس وطرد المسلمين بالنسبة للإسبان، وحرب جهاد ضد صليبيين يهددون أرض الاسلام بالنسبة للمغاربة ـ فان الملمح البارز الذي يتخلل هذا الصراع هو ظهور نزعة انسانية تميل الى النظر الى الحرب ككارثة وعبث لا طائل من ورائه مهما كانت نتائجها. إن هذه النزعة تجد جذورها الايديولوجية في التطور السياسي لغالدوس ذاته، كما تجدها في مخيال أطروحة «الاخوة» التي توحد الإسبان والمغاربة الذين ينتمون، مثل «الحاج محمد بن سور الناصري»، الى شجرة أنساب إسبانية. إن هذا ما حدا بإحدى الشخصيات، في بداية الرواية، للميل الى تصوير الحرب وشيكة الوقوع كحرب أهلية: «إن المغربي والاسباني أخوان أكثر مما يبدو: فيكفي أن ننزع منهما قليلا من الدين وبعضا من اللغة حتى تتجلى القرابة والوئام العائلي بارزين للعيان. أليس المغربي هو الاسباني المسلم؟ والاسبان، أليسوا جماعة من المغاربة مقنعين بقناع المسيحية؟.. إن الحرب التي نخوضها اليوم هي، الى حد ما، حرب أهلية».
إن هذه الاطروحة ستتبلور أكثر مع تطور المشروع الاستعماري الذي كانت السنوات الاولى من القرن العشرين (وهي الفترة التي كتبت فيها الرواية) حبلى به، والتي ستغدو جزءا من ايديولوجية التوسع وتبرير الاحتلال الإسباني المستعملة من طرف (فيغيراس) وغيره منظري فترة الحماية.
* كاتب وناقد من المغرب

   الاثنيـن 22 صفـر 1425 هـ 12 ابريل 2004 العدد9267  جريدة الشرق الأوسط