domingo, junio 28, 2015

أبعد من الأفق» للروائي محمد الدغمومي

البحث عن المعنى في «أبعد من الأفق» للروائي محمد الدغمومي
مصطفى الورياغلي العبدلاوي
JUNE 24, 2015
http://www.alquds.co.uk/?p=362383
 هل ما يزال في مقدور الرواية أن تقول شيئاً جديداً؟ أن تُنتج معنى؟ قد يبدو هذا السؤال متهافتاً بوجود ذلك الكم الهائل من الروايات التي تلفظها المطابع ودور النشر في كل آن وحين، لكنه شكّل هاجساً طغى على كتّاب الرواية في النصف الثاني من القرن العشرين في أوروبا، وكان أحد عناوين أزمة الحداثة؛ اعترف رولان بارت في أحد أحاديثه أنه من الصعب أن يقبل المرء، ببراءةٍ، فكرةَ عملٍ تخييليّ، وقد بلغنا (يقصد الأوروبيين) من الحداثة هذا الحدَّ الذي وصلنا إليه. وهي الفكرة ذاتها التي قصد إليها الروائي الأمريكي، ذو الأصل الروسي، نابوكوف، عندما قال إن التخييل أول ما بدأ كان من فعل راعٍ شَعَرَ بالوحدة والسأم فصاح في جماعته «ها قد جاء الذئب!»، ولم يكن هناك ذئب؛ فالكاتب اليوم صار واثقاً من أنه لا أحد ما يزال يصدق حكاية الذئب، أو لعله هو. 
لقد صار السؤال المؤرق: لماذا نكتب الرواية؟ ولم تجد الرواية الغربية الأوروبية من جواب تداري به نزعات الشك والتشكيك لدى الكاتب والناقد والقارئ سوى الالتفاف حول ذاتها، والانشغال بقضايا التشكيل وآليات الإنتاج اللغوي؛ ضاق مدى الرواية هناك فانتقلت إلى آفاق جديدة منحتها شباباً متجدداً، وحيوية دافقة، في آداب تقع خارج خريطة المركزية الأوروبية، في كل من أمريكا اللاتينية وأوروبا الوسطى والبلاد العربية واليابان والهند والصين وأفريقيا، حيث تمتزج أسئلة الرواية بأسئلة الذات والهوية والمجتمع والعالم.
ويجد القارئ في رواية الكاتب المغربي محمد الدغمومي «أبعد من الأفق» صورة لذلك الإيمان المتجدد بقدرة الرواية على صوغ سؤال الذات في علاقتها بكينونتها وبالآخرين وبأسئلة العالم والوجود؛ فمنذ مدخل الرواية في صفحتها الأولى نجد الكاتب/السارد ينص على دينامية التخييل والحلم في صوغ السؤال وإنتاج المعرفة: «من أجل ذلك يعرف الإنسان في لحظة اليقظة، بعد أن يحلم ويتخيّل ويتذكر، أنه يمتلك القدرة على التأمل الكاشف والمفضي إلى المعرفة والحكمة» (ص7 من الرواية). ومنذ البداية أيضاً ندرك أن البطل/السارد كائن ملتبس، يعيش في عالم سديمي ما بين «الواقع» و»الحكاية»؛ حكاياته التي يتخيّلها في رواياته: «أقول لنفسي كلا ليست هذه مدينة الرباط، أنا لست الآن فيها، بل أنا موجود في مدن أخرى تتمثل في بقايا أضغاث أحلام الليل التي تسكن في دماغي، كلما تمعنت فيها أكتشف أنني لا أراها، وأرى مدناً أخرى في الشرق والغرب والشمال والجنوب، وأشاهد جيوشاً وقراصنة وأشعر بأن لي ثأراً ما …» (ص13)، حيث تمتزج فضاءات حياته اليومية وأحداثها بفضاءات المتخيل وشخصياته وأحداثه في الرواية التي يستغرق في كتابتها بين الحين والآخر. وهنا يقع التباس آخر في ذهن القارئ بين السارد/الشخصية والكاتب: يتقاسم الكاتب والسارد الوظيفة نفسها (أستاذ جامعي)، ومقر العمل (كلية الآداب في العاصمة الرباط)، ومهد الطفولة والصبا (مدينة طنجة)، وكلاهما يكتبان الرواية. ويكشف منطق الرواية عن ثلاثة مصادر يشكل منها الإنسان معرفته، ويستقوي بها في طلب الحقيقة: الواقع والكتاب والتخييل؛ عندما يشرع السارد في قراءة كتاب عن الأخلاق يستوقفه سؤال جدوى المبحث برمته «فالأخلاق دائماً تحمي قيماً في مقابل قيم، والقيم تعني مصالح غير مصرح بها في جل الأحوال، وفي عالم يتصارع فيه الناس من أجل فرض وجودهم وامتلاك أسباب القوة والسلطة» (ص55). وهنا يصبح التخييل، ممثلا في شخصيات رواية يكتبها السارد بعنوان «أزمنة الروح»، جزء من التفكير، وموضوعاً ووسيلة في الآن عينه: «ألم يصبح صخر الحضرمي عبداً اسمه مهدان، وعبد الله الأدهم جنديا أو عبدا! ألم يكن لهما أخلاق تحلل استرقاق المغلوبين على أمرهم، بل تبرر قتلهم؟» (ص56). وفي حركة ثالثة، ينتقل السارد من الكتاب والتخييل إلى الواقع أو الحياة، عندما يطوي الكتاب ويلتفت إلى شاب بدويّ مقبل على الحياة في العاصمة، يجلس بجواره في المقهى، فيخاطبه في نفسه قائلا: «ترى هل تصير عبدا أو عصا في يد عبد أكبر يخفف من عناء عبوديته بتكسير عناد العبيد؟» (ص56). 
يعيش السارد/البطل منذ بداية الرواية، وعلى امتداد فصولها، قلقاً مستمراً، وبحثاً حثيثاً عن معنى يرضاه لحياته الموزعة بين اليومي والتخييلي. يعيش في الواقع حياة مسطحة، مملة، بين زوجة لم يعد يربطه بها سوى الألفة والعادة، وعمل في الجامعة لا يجني منه غير الإحباط، سواء بسبب لامبالاة الطلبة وانصرافهم عن طلب العلم، أم بفعل نفاق زملائه الأساتذة ولهاثهم خلف الملذات المادية والمصالح الشخصية، فلا يبقى له من ملاذ سوى مقعده في زاويته المفضلة في المقهى، حيث يختلي بكتاب يقرأه أو صفحات يسوّدها. وعندما لا تسعفه حياته الآن هنا في فك طلاسم وجوده البائس يلجأ إلى الحلم والتخييل، لعل قدرة الخيال اللامحدودة على ارتياد العوالم، وسَبْرِ أغوارها وممكناتها، مهما تباعدت بينها الفضاءات والأزمنة، يتيح له فك شفرة الوجود: «فهمتَ الآن [يقول السارد/البطل مخاطباً نفسه على لسان شخصياته المتخيلة] إنك تسمع نفسك، أنت نحن روح واحدة، فهمتَ كيف تكون الذاكرة والمخيلة هي مكان يجمعنا من دون أن نلتقي! فهمتَ لِمَ أنت منشغل بحكايات مهدان والأدهم والمرسي والسبتي [شخصيات رواية «أزمنة الروح» التي يكتبها] إنها حكايتك في رواية أزمنة الروح، روايتك يا حمّاد وما يحدث لك ومعك يحدث في حكاية واحدة فصولها فصول رواية أزمنة الروح [...] إذن في رأسي أنا شيفرة تعني أني «حمّاد الصالح»، أنا، هو «مهدان» و»المرسي» و»الروندي»! شيفرة تبحث عن معنى ينفلت من الأجساد ويراوغ الزمن! إذن فالفصول الباقية من رواية «أزمنة الروح» هي فصول في رواية حياتي هذه! هي رواية لن تنتهي [...]» (ص228).
إن رؤية رواية «أبعد من الأفق» تقوم على إيمان بحدود قدرة العقل على تفسير الوجود الإنساني وإدراك ألغازه وخباياه، ومن ثم تبرز ملكة التخييل باعتبارها قوة دينامية قادرة على إنتاج المعرفة؛ معرفة مغايرة للمعرفة العقلية، لكنها لا تقل عنها أهمية في تشكيل وعي الإنسان بذاته وبالعالم من حوله: «واستخلصت [يقول السارد في الصفحات الأخيرة من الرواية] إن هناك حقائق لا يمكن نفيها ولا تأكيدها، يصدقها القلب وحده بينما العقل الذي يعترف بقصوره وجهله اللامحدود لا يصدقها. وقلت هذا معناه أن ما يحدث بين الناس، مثل ما يحدث بينك وبين من تعرفه، شيء مستمر في الزمن، وما كان بين «مهدان» و»الأدهم» و»صالح المرسي» و»الروندي» وبقية من عرفوه من البشر هو ما يفسر ما يحدث لي مع الآخرين في هذا الزمن!» (ص237-238). 
تأخذ الرواية القارئ في رحلة بحث متعبة ولذيذة، تتأمل فيها الذات الإنسانية وجودها ومصيرها بقلق صوفي لا يركن إلى الجسد ومتطلباته، ولا تستسلم لآنية الحياة الاجتماعية وصراعاتها حول المصالح المادية المحدودة؛ فالرواية تبحث في عمقها عن الحقيقة الكامنة خلف تعدد الأشكال، وتنوع الطبائع، وتباين الفضاءات والأزمنة؛ يقول السارد على لسان مضاعفه المتخيَّل: «أنا لا أدري من أكون يقيناً! أنا أعرفك فقط! كنت معك في أمكنة أخرى وأنا هنا موجود معك وأسمع نداءك، فأنا الساكن بين المسافات البينية وبين الآفاق؛ ومأواي حيث تكون أنت ويلتقي الماء والتراب، الأرض والبحر، المقبرة والمدينة، الماضي والحاضر؛ أنا الذاهب الراجع، بين أفق وأفق هو أبعد من كل أفق..» (ص246).
لقد تمكن الكاتب محمد الدغمومي أن يسمو بالرواية في عمله هذا إلى ذرى فكرية تأملية ذات أبعاد إنسانية رفيعة، وأن يشرع أمام الرواية المغربية آفاقاً جمالية جديدة تشكل إضافة نوعية في تمثيل علاقة الذات بأسئلة المجتمع والعالم.
كاتب مغربي

مصطفى الورياغلي العبدلاوي

viernes, junio 19, 2015

اليهود العرب والأدب العربي رؤوبین سنیر

اليهود العرب والأدب العربي:

اللغة والشعر والهويّة المتفرّدة
رؤوبین سنیر
أستاذ اللغة والأدب العربیین في جامعة حیفا

يبدو تصوّر الهويّة "اليهودية-العربية" المشتركة متعذّر اليوم بحكم الوضع السياسي القائم في الشرق الأوسط، بيد أنها كانت حقيقة واقعة قبل الحرب العالمية الثانية، كما هي الحال مع الهويّة اليهودية-الألمانية. شهود هذه الهويّة اليهودية-العربية الممتزجة هم اليهود الناطقون باللغة العربية وشعراؤها.

 "من الواضح بلا شكّ أننا نشهد اليوم احتضار الثقافة والهويّة اليهودية-العربية"
​​أبصر والِديّ النور ببغداد وهاجرا إلى إسرائيل عام ألف وتسعمئة وواحد وخمسين غصبا عنهما، وبعد ذلك بسنتين وُلدتُ في حيفا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط وكأي يهودي إسرائيلي المولد تلقّى تعليمه في إطار النظام التعليمي الإسرائيلي-الصهيوني، لُقّنت بأن الهويّتين العربية واليهودية نقيضان لا يلتقيان. وفي محاولتي كطفل للتكيّف مع المعايير الصهيونية-الإشكينازية الغربية السائدة، وكما كانت الحال مع بقية الأطفال من ذوي الخلفية الاجتماعية المماثلة، كنت، وأنا طفل، أشعر بالخجل من عروبة والديّ. أما بالنسبة إليهما فلم أكن سوى عميل جهاز القمع الصهيوني الحكومي الذي أرسلته المؤسّسة الإسرائيلية الحاكمة، بعد تلقّي أفضل التمرينات والتدريبات، إلى قلب استحكامات العدو، أي: عائلتي، وقد أتممتُ المهمّة على أكمل وجه يمكن أن يؤدّيه طفل أمام والديه المحبّين، مستغلّا استغلالا تامّا ما تنطوي عليه محبّة الوالدين من ضعف إزاء طفلهما: حظرت عليهما الكلام بالعربية في الأماكن العامّة، أو الاستماع إلى الموسيقى العربية داخل بيتهما. ولم تكن العروبة مشكلة والدي الوحيدة فحسب، إذ كان نشيطا شيوعيا في وقت كان فيه الانتماء للشيوعية في إسرائيل لا يختلف عن الانتماء إلى منظّمة إرهابية.

وأكثر ما أتذكّره عن والدي هو عشقه الكبير للشعر، ولا سيّما للشعر العربي، وكيف كان يستشهد به محاولا إرشادي وتثقيفي. لا أتذكّر بالتأكيد الآن أي شيء مما كان ينشد على مسامعي آنذاك من أبيات شعرية؛ أعرف فقط أنه كان يصرّ على إلقائه رغم أني، ويعود الفضل في ذلك إلى تربيتي الصهيونية المتشدّدة، لم أودّ الإصغاء إليه. وأعتقد أن إحجامي التامّ عن الاستماع إليه، هو ما دفعه إلى تكراره مرة تلو الأخرى، الأمر الذي أهّلني بعد ذلك بسنوات لاستعادة بيت واحد من الشعر، أذكر أنه على علاقة ما بالإبل والماء، ربما لأنني طوّرت حسّا بموسيقاه الداخلية المستمدّة من بحر الكامل الخليلي. وكان بيتا منسوبا إلى شاعر القرون الوسطى الأعمى الزاهد أبي العلاء المعري (٩٧٣-١٠٥٨) الذي أثير الكثير من الجدل حول إمكانية تأثّر دانتي أليغيري (Dante Alighieri) به عند كتابته "الكوميديا الإلهية" - مأساتي، على كلّ حال، كانت أبعد ما تكون عن كونها إلهية:

كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول
حين بدأت أبحاثي في تاريخ اليهود العرب، موليا اهتماما خاصّا بعروبة اليهود العراقيين المتأصّلة في عمق التاريخ العربي وما قبله، عذّبني هذا البيت كثيرا. وقد بلغ العذاب مدى لا يطاق حينما قرأت، لأوّل مرة، رائعة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش (١٩٤١-٢٠٠٨) "أنا يوسف يا أبي" من ديوان "ورد أقل"، وخصوصا عندما استمعت إلى مارسيل خليفة يغنّيها:

أنا يوسف، يا أبي، يا أبي، إخوتي لا يحبّونني، لا يريدونني بينهم يا
أبي يعتدّون عليّ ويرمونني بالحصى والكلام. يريدونني أن أموت لكي
يمدحوني. وهم أوصدوا باب بيتك دوني. وهم طردوني من الحقل. هم
سمّموا عنبي يا أبي. وهم حطّموا لعبي يا أبي. حين مرّ النسيم ولاعب
شعري غاروا وثاروا عليّ وثاروا عليك، فماذا صنعتُ لهم يا أبي؟
الفراشات حطّت على كتفيّ، ومالت عليّ السنابل، والطير حطّت على
راحتيَّ. فماذا فعلتُ أنا يا أبي، ولماذا أنا؟ أنت سمّيتني يوسفا، وهمو
أوقعوني في الجبّ، واتّهموا الذئب؛ والذئب أرحم من إخوتي، أبتِ!
هل جنيتُ على أحد عندما قلتُ إني رأيت أحد عشر كوكبا، والشمس
والقمر، رأيتهم لي ساجدينْ.
تساؤل يوسف المتكرّر "ماذا فعلت أنا يا أبي؟" و "هل جنيت على أحد؟"، بعث، وما زال يبعث، في قلبي، شعورا عميقا بالندم. والسؤال الأخير يفيد نفس المعنى الوارد في الشطر الثاني من بيت أبي العلاء الذي أوصى بنحته على قبره:

هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد

ولأن النزوع نحو الزهد أفعم قلب المعري بالغيظ من والده الذي أنجبه، فقد قمع شهوته الجنسية خشية تنسيل ذريّة من صلبه. أما بالنسبة إليّ فشعرت أن عليّ بالأحرى قراءة البيت بشكل معاكس تماما:

هذا ما جنيت على أبي وما جناه على أحد

كان إصراري على رفض التراث الحضاري العربي، الذي كان تراث والديّ قبل هجرتهما إلى إسرائيل، متأصّلا في قلبي ومتحكّما في هويّتي الإسرائيلية الصهيونية على مدى سنوات طويلة. ولم يفارقني هذا الإصرار حتى عندما بدأت تعلّم اللغة العربية في المدرسة الثانوية، وبعد ذلك في الجامعة، إذ كان النظر إلى اللغة العربية دائما من خلال عدسة الضرورات الأمنية الإسرائيلية، تحت شعار "اعرف عدوّك!"- كان النظر إلى اتقان العربية و وظائفيا بحتا، أي، إجادة العربية لكي يكون بالإمكان خدمة الأجهزة الأمنية في المعركة ضد العرب. وعندما أطلّ الآن على تلك الفترة المبكّرة من حياتي، لم أجد أفضل تعبير عن مثل ذلك الانفصام في هويتي - عروبة والديّ الأصلية مقابل التثقيف الصهيوني الساعي إلى شطب هذه العروبة - ممّا قالته الشاعرة الإنكليزية كريستينا روسيتي (Christina Rossetti) ١٨٣٠-١٨٩٤) في مطوّلتها الشعرية "عفريت السوق" (Goblin Market): "بإمكان شخص واحد أن يقود حصانا إلى الماء، لكن عشرين شخصا لا يستطيعون أن يجعلوه يشرب".

اكتشاف الهويّة اليهودية – العربية

كانت توبتي تدريجية وبطيئة للغاية، ولكن في "باب التوبة" من "الرسالة القشيرية" يرد القول إن الله يحبّ التوّابين، فعلى الأقلّ، هكذا أسلّي نفسي، يحبّني الله. لقد ارتقيت طريق التوبة (وربما أضحى ذلك واحدا من هويّتي المبتكرة الحالية) يوم ١٤ كانون الأول/ديسمبر ١٩٨٤، أي بعد خمس سنوات من وفاة والدي، حينما كنت جالسا في قسم الأخبار في إذاعة إسرائيل باللغة العربية حيث كنت أعمل يومها، بعد أن صرت أتقن العربية، محرّرا للأخبار توفيرا للقمة العيش. أما في أبحاثي الأكاديمية فكنت منهمكا في تحقيق نصوص الزهّاد والصوفيين القدامى ضمن دراستي في الجامعة العبرية في القدس - فلم تكن ثقافة اليهود العرب في العصر الحديث في أي حال من الأحوال ضمن موضوعاتي المفضّلة. فالتصوّر السائد آنذاك في الجامعة العبرية (وهناك من يصرّ أن هذا التصور ما زال سائدا هناك حتى الآن) هو أن العرب المعاصرين ليسوا إلا " أمّة بائدة"، أي أمّة ذات ماض عريق حضاريا، ولكن بلا شيء ذي قيمة حاليا. في ذلك اليوم الشتائي، أبلغنا مراسلنا للتوّ بوفاة الشاعر أنور شاؤل (١٩٠٤-١٩٨٤) في كيرؤون، بالقرب من تل أبيب، وأذعنا الخبر مع نبذة مقتضبة عن سيرة حياته. اتّصلت فورا بالمسؤولة عن تحرير الأخبار في القسم العبري، إذ ظننت أن من المهمّ، رغم تربيتي الصهيونية المتزمّتة، أن يذاع في النشرة العربية أيضا خبر موت أحد آخر الشعراء اليهود العرب. "أنور من؟" سمعت المحرّرة في القسم العبري تزعق. شرحت لها باختصار أهمّية الخبر إلا أنها سرعان ما قالت: "هذا لا يعني مستمعينا بتاتا" لم أحاول إقناعها وقتذاك، لكن بعد ذلك بسنتين، وفي عام ١٩٨٦، خطف الموت شاعرا يهوديا عربيا آخر هو مراد ميخائيل (١٩٠٦-١٩٨٦) ، ثمّ في السنوات اللاحقة أدركت المنيّة المزيد من الشعراء والكتاب اليهود العرب في غفلة تامّة: شالوم درويش (١٩١٣-١٩٩٧)، داود صيماح (١٩٣٣-١٩٩٧)، يعقوب بلبول (١٩٢٠-٢٠٠٤)، إسحاق بار-موشيه (١٩٢٧-٢٠٠٤)، وكذلك سمير نقاش (١٩٣٨-٢٠٠٣)، من أعظم الكتّاب العرب في جيلنا، من وجهة نظري. وأصرّ على قولي، من أعظم الكتّاب العرب وليس اليهود العرب فقط، و أدعو كل من يعتقد أني أبالغ بحكمي النقدي أن يحتفظ بتحفّظاته إلى أن يقرأ رواية نقّاش العراقية الرائعة "نزولة وخيط الشيطان" التي نشرت عام ١٩٨٦. مات سمير نقاش وهو مفتقر إلى الوسائل الأساسية اللائقة بأسباب العيش الكريم مما حدا به، قبل موته المبكر ببضع سنوات، أت يعبّر عن عزلته في المجتمع الإسرائيلي على جميع المستويات بقوله: "لا أعتبر نفسي كائنا حيّا في هذا البلد (إسرائيل)؛ ليس ككاتب، ولا كمواطن أو حتى كإنسان. لا أشعر بأنني أنتمي إلى مكان ما منذ انتزعت جذوري من الأرض (في بغداد)". ومنذ وفاة سمير نقاش وافى الأجل كاتبين رائعين آخرين من الكتاب اليهود العرب هما: مير بصري (١٩١٠-٢٠٠٦) في لندن وإبراهيم عوبديا (١٩٢٤-٢٠٠٦) في حيفا.

           لقد كان اليهود العرب، الذين هاجروا إلى إسرائيل بعد تأسيسها، عرضة لمؤسسة ثقافية عبرية-صهيونية سائدة، فرضت هيمنتها المطلقة على كافّة الكيانات الثقافية الأخرى تحت مظلّة الليبرالية اليسارية، وكانت في ذات الوقت تحتقر وتخشى الشرق وثقافته. لم تختلف سياسة إعادة قولبة هويّة اليهود العرب المهاجرين في صورة الإشكينازي الأبيض وهويته الثقافية الغربية عن السياسة البريطانية في الهند، والتي عرّفها "توماس "بابنغتون ماكولي "(Thomas Babington Macaulay) ١٨٠٠-١٨٥٩) في كلمة له عام ١٨٣٤ أمام الهيئة العامة للتعليم العام. متحدّثا عن الأهداف التعليمية للبريطانيين في الهند، دعا بابنغتون إلى خلق نوع جديد من الأشخاص يكون "هنديا بالدم واللون، وإنجليزيا في الذوق، الأخلاق والذكاء". لقد حقّقت الحركة الصهيونية نجاحا باهرا بالضبط حيث عجزت حتى بريطانيا عن تحقيقه - خلق نموذج جديد للإسرائيلي: شرقي في دمه ولونه، وصهيوني وإشكينازي وغربي في الذوق والرأي. هكذا، مثلا، قسر النظام التعليمي الإسرائيلي نسل العوائل اليهودية العربية على القبول بالهولوكوست كما لو أنها كانت محرقتهم الذاتية - وأستطيع أن أضيف أحيانا، كما لو أنها روح-تاريخهم الوحيد والعلامة الفاصلة في هويتهم الثقافية. الهويّة العربية الأصلية لليهود المهاجرين من العالم العربي إلى إسرائيل حضاريا وثقافيا ألقيت في سلّة المهملات التاريخية.

مساءلة الهويّة الإشكينازية الغربية

وصار المدافعون عن الميول الغربية للهويّة الإسرائيلية المخترعة يتفجّعون خوفا من "خطر" تشرّق" و"تمشرق" المجتمع الإسرائيلي. فعلى سبيل المثال كتب الصحافي آريه جيلبلوم (Arye Gelblum) في صحيفة "هآريتس" الإسرائيلية يوم ٢٢ أبريل ١٩٤٩ ما يلي:
"نحن نتعامل مع أناس في غاية البدائية، مستوى معرفتهم يقترب عمليا من الجهل المطلق، بل أسوأ من ذلك؛ إنهم لا يتمتّعون ولو بالقليل من الموهبة التي تؤهّلهم لفهم أي شيء عن الثقافة".

أحد هؤلاء الذين وصفهم جيلبلوم بأنهم "لا يتمتّعون بقليل من الموهبة تؤهّلهم لفهم أي شي عن الثقافة" كان نسيم رجوان (ولد عام ١٩٢٣)، الذي كتب باستمرار في الأربعينات لصحيفة "Iraq Times" الإنجليزية التي كانت تصدر في بغداد، وكان يهتمّ خصوصا في شؤون الأدب الإنجليزي. وبالرغم من ذلك، وبعد هجرته إلى إسرائيل، كان غالبا ما يعامل ككاتب يفتقر للقابليات الثقافية المناسبة عندما أراد الكتابة عن القضايا غير العربية، حينما كان يعمل مثلا لصحيفة "جيروزاليم بوست" (Jerusalem Post). أما رجوان نفسه فلا يتردّد الآن في حكمه على تلك الجهات الرسمية التي سعت إلى شطب الهويّة اليهودية العربية واستهانت باليهود العرب:
"إنها المؤسّسة السياسية-الثقافية (الصهيونية) الحاكمة، التي ينحدر قادتها وروّادها الثقافيون، على الغالب، من قرى و غيتوهات روسيا والمناطق البولندية في روسيا، وهم الذين تقنّعوا بقناع "الغربيين" الأصليين - هذه المؤسّسة أخضعت المهاجرين الشرقيين إلى عملية منظّمة من التثاقف والتطهير الثقافي التي أجبرتهم على التنازل عن ثقافتهم، ولغتهم وطريقتهم في الحياة. هكذا أفلحت إسرائيل في تفويت ما كان فرصة نادرة للاندماج في المنطقة بشكل يرحّب بها الجيران العرب - بدلا من الانغلاق على النفس ككيان غريب في قلب المنطقة التي تأسّست فيها".

ومن جانب آخر، أرفض تماما الأسطورة، التي تغذّيها المؤسّسة الصهيونية بكل عناية، ومفادها أن يهود العراق كانوا في خطر داهم، أنقذتهم منه عملية إنقاذ خيالية قامت بها أجهزة الدولة اليهودية الجديدة. فالحقيقة هي أن يهود العراق رفضوا الهجرة إلى إسرائيل حتى مطلع عام ١٩٥٠، بل وحتى حينما أصدرت الحكومة العراقية قرارا يسمح لليهود بالهجرة مقابل تخلّيهم عن الجنسية العراقية أو ما سمّي بالتقسيط. طُرح خيار تسقيط الجنسية المذكور لفترة سنة واحدة فقط ولم تكن الاستجابة له في صفوف اليهود قوية - إلى أن بدأت القنابل تتفجّر في بعض المعابد والمؤسّسات اليهودية في بغداد. تُرى من فجّر هذه القنابل؟؟ سؤال حرج، وبالفعل، لا أعرف، وربما لا يعرف أحد ذلك الآن؛ ولكن يسعني القول، بكل ثقة، إن معظم يهود العراق الذين تسنّى لي الاستفسار لديهم عي هذه الحوادث الغريبة لا يساورهم أي شكّ بهويّة الجهة الفاعلة، أو بالأحرى بهويّة تلك الجهة التي حقّقت أكبر المنافع حينما أسرع ما لا يقلّ عن مئة ألف من يهود العراق إلى الهجرة إلى إسرائيل.

ووفق هذه العجالة التاريخية المنسوجة بمذكّراتي الشخصية، من الواضح بلا شكّ أننا نشهد اليوم احتضار الثقافة والهويّة اليهودية-العربية. كان العنصر الأساسي في "التكافل الخلاق" (creative symbiosis)، ويعود الفضل في طرح هذا المصطلح إلى الباحث شلومو دوف غويتيان (Shlomo Dov Goitein) (١٩٠٠-١٩٨٥)، بين المسلمين واليهود في القرون الوسطى وحتى العصر الحديث، كون الغالبية العظمى من اليهود الواقعين تحت الحكم الإسلامي، قد تبنّوا اللغة العربية كلغة لهم. أما في عصرنا فلا وجود لمثل هذا التكافل لأن العربية أصبحت تتلاشى الآن كلغة يتقنها اليهود. وإذا التقيت اليوم يهوديا يتحدّث العربية بطلاقة، فكن على ثقة بأنه إما أن يكون قد ولد في بلد عربي (وعددهم يتناقص، بطبيعة الحال، باستمرار) أو أنه يعمل في إطار أجهزة الاستخبارات أو المباحث العامة الإسرائيلية (وعددهم، بالطبع، يزداد على الدوام). فالنخبة اليهودية-الإسرائيلية سواء كانت الرسمية أو الثقافية لا تعتبر اللغة العربية وثقافتها كنزا حضاريا. وليس هناك، مثلا، ولو كاتب يهودي واحد وُلد بعد ١٩٤٨ ويكتب بالعربية. هكذا يتلاشى تدريجيا تراث حضاري نشأ قبل أكثر من ألف وخمسمائة عام، أو بالأحرى هكذا يتمّ، أمام أعيننا، الإجهاز بشكل منظّم على هذا التراث الحضاري الرائع في حين يقف الجميع مكتوفي الأيدي، وذلك بناء على تآمر غير معلن تشارك فيه الصهيونية، من جهة، والقومية العربية، من جهة أخرى، وكلّ منهما يجد دعما لموقفه في دين سماوي يستلهمه، وكأن الإسلام واليهودية يجمعان على ضرورة محو هذا التراث الحضاري اليهودي-العربي العريق المشترك.

بكلمة أخرى، أصبحت الهويّة اليهودية-العربية مثل الوباء الذي تنبغي مكافحته، وأصبحت الحاجة ملحّة لعزل هذه القلّة من الناس التي ما زالت مصابة به في حجر صحي خشية انتقال وباء الهويّة غير المرغوب بها، لا سمح الله، إلى غير المصابين.

إن دور القومية العربية في عملية محو الحضارة اليهودية-العربية أمر لا يمكن إنكاره، إلا أنني لا أعتبر نفسي مؤهّلا للتطرّق إليه - فعلى المسيحيين والمسلمين أنفسهم أن يدركوا خطأهم التاريخي الفادح ويعترفوا به - فمن دواعي السرور أننا بدأنا نرصد بعض المؤشّرات الإيجابية في هذا الاتجاه، إلا أن الطريق ما زال طويلا. أما بالنسبة للصهيونية، فقبل ٢٠ سنة فقط، أي في نهاية الثمانينات، بدأت أفهم أن المجتمع الحضاري المتطوّر الذي أعيش فيه لا بدّ وأن تنطبق عليه مقولة "والتر بنيامين" (Walter Benjamin) ١٨٩٢-١٩٤٠):" ليست هناك وثيقة في الحضارة ليست، في ذات الوقت، وثيقة في البربرية".

تعريف الهويّة

ولكن ما هي الهويّة اليهودية-العربية؟ وأيضا، من، يا ترى، يحتاجها اليوم "بعد خراب البصرة"، كما يقول العراقيون؟ عليّ أن أعترف، بداية، بأن اهتمامي بنظريات الهويّة حديث نسبيا. وقد بدأ هذا الاهتمام عندما رأيت العديد من المجتهدين في هذا المجال يتناقشون حول الهويّة اليهودية-العربية دون أن يكون لهم أي مدخل مباشر إلى النصوص الأصلية، إذ أن حقل دراسة الحضارة العربية-الإسلامية بوجه عام هو، كما أشار إلى ذلك المفكّر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد (١٩٣٥-٢٠٠٣)، أحد الحقول القليلة التي يكتب فيها العديد من الباحثين الذين لا يتقنون العربية، ويدّعون في ذات الوقت عدم الحاجة للتبحّر في هذه اللغة وحضارتها. فمن السهولة بمكان التصدّي للسؤال الثاني المارّ ذكره أعلاه - فهناك حاجة لمناقشة مفهوم الهويّة اليهودية-العربية في المحيطات الصهيوني، والإسرائيلي، والعربي، واليهودي، والإسلامي، والمسيحي، شأنها شأن الحاجة لمناقشة الهويّات الأثنية والأنثوية والمثلية الجنسية وغيرها من الهويّات الشخصية والجماعية والاجتماعية والوطنية والقومية والثقافية. تقول الباحثة جوان سكوت (JoanScott)، من أبرز المنظرين في مجال الجنوسة
 (Gender):
"
ما أن نفهم أن الذات (Subject) يجري بلورتها والتعبير عنها من خلال عمليات الاستثناء والإقصاء (exclusion)، حتى يغدو من الضروري تقصّي طبيعة هذه العمليات التي من شأنها أن تؤدّي إلى بلورة هويات معيّنة ومحو أخريات".

أما الباحث أندرو إدجار (Andrew Edgar) فيقول:

"
ما أن ندرك أن الهويّة لم تنشأ كبناء ناجز، وإنما تعتمد على عوامل أخرى، ينفتح الأفق النظري أمام المجموعات المضطهدة والمهمشّة للتحدّي وإعادة نقاش الهويّات التي فُرضت عليها في عملية الهيمنة. وهكذا أُخضعت الهويّات الأثنية، الجنسية المثلية، والهويّات الأنثوية لعمليات التغيير السياسي".
وممّا لا شكّ فيه، أن اليهود العرب، الذين أصبح من المألوف في إسرائيل بعد ١٩٤٨ أن يطلق عليهم، من باب لطف التعبير (euphémisme) اسم "مزراحيم" (شرقيون)، قد اضطُهدوا طوال عقود طويلة من القرن المنصرم، من قبل الصهيونية والقومية العربية وعملائهما السياسيين والاجتماعيين والثقافيين المتنفّذين. كما تحوّل اليهود العرب أنفسهم، أحيانا، وربّما بسبب ما مرّوا به من شطب لهويّتهم الأصلية وإحلال هويّة تنكر العروبة محلّها، إلى قامعين للآخرين، وخصوصا للفلسطينيين.

غير أن السؤال الأصعب هو ما هي بالفعل الهويّة اليهودية-العربية وكيف نستطيع أن نحلّل عناصرها؟ أودّ بهذا الصدد أن اقترح التعمّق في تصوّرات طُرحت على المستوى النظري في السنوات الأخيرة وتقول بأن الهويّات ليست أبدا أحادية البنية وإنما متعدّدة البنى وهي قائمة على مستويات وممارسات ومواقف مختلفة، غالبا ما تكون متداخلة ومتضادّة. فالهويّات إذن تدور حول قضايا استخدام الموارد التاريخية واللغوية والثقافية في عملية صيرورة أكثر منها عملية وجود: ليس "من نحن؟" أو "من أين ننحدر؟"، وإنما في الغالب "ما الذي سنصير عليه؟"، وكذلك "كيف ولماذا جرى تمثيلنا على هذا النحو؟" و"ماذا سيكون تأثير هذه التساؤلات على كيفية تمثيلنا لأنفسنا لاحقا؟". بكلمة أخرى، تنطلق الهويّات من "حكائية" الذات، لكن الطبيعة القصصية الخيالية الضرورية في هذه العملية لا تقوِّض، في أية حال من الأحوال، مادّتها الاستطرادية أو تأثيرها السياسي. وأودّ أن أبدأ بمفهوم الهويّة الذي يقترحه الشاعر والناقد السوري أدونيس (علي أحمد سعيد) (المولود عام ١٩٣٠) . فهو يقول في كتابه "المحيط الأسود":"لا تأتي الهويّة حصرا من «الداخل» وحده، ولا من «الخارج» وحده: إنها في هذا التفاعل المتحرّك أبدا. لهذا يمكن القول إن الهويّة ليست في ما يثبت بل في ما يتغيّر. أو يمكن القول، بتعبير آخر، الهويّة معنى لا صورة له - أو هي، بشكل أدقّ، معنى في صورة متحرّكة دائما. فالهويّة «لا تتطابق مع أية تجربة محسوسة»، كما يعبر ليفي شتراوس. إنها تتجلّى في «الاتجاه نحو»، لا في «العودة إلى». إنها في التفتّح، لا في التقوقع، في التفاعل لا في العزلة، في الإبداع لا في الاجترار.
في الشعر، في الإبداع الفني، بعامة، تتجلّى مسألة الهويّة في إشكاليتها الأكثر سطوعا. فالهويّة، في اللغة الشعرية، هي موضع تساؤل دائم. لا يكون الإنسان نفسه، في تجربة الإبداع الفني، إلا بقدر ما يخرج ممّا هو. فهويّته جدل بين ما هو وما يكون: هي في هذه الحركة الدائمة - في اتجاه أفق آخر، وضوء آخر. والهويّة في هذا المنظور، هي أمام الإنسان أكثر مما وراءه - وذلك بوصفه مشروعا، وإرادة خلق وتغيير. أو لنقل: الهويّة هي أيضا إبداع: فنحن نبدع هويّتنا، فيما نبدع حياتنا وفكرنا" (ص١٧-١٨
).
كل من يدرس هويّة أولائك المثقفين الإسرائيليين الذين يتبنّون مؤخّرا الهويّة اليهودية-العربية، ويجوز لنا أن نطلق عليهم اسم اليهود العرب الجدد (Neo Arab Jews) ، سيرى أن فكرة بلورة هذه الهويّة، وأحيانا خلقها من العدم، نشأت من خلال استبعاد أحد أهم مكوّنات تلك الهويّة على مرّ الأجيال، أعني اللغة العربية. إن نشطاء الهويّة اليهودية-العربية الجدد ليس لهم أية صلة مباشرة بالثقافة العربية بل لا يتقن معظمهم العربية الفصحى وليس بوسعه التعرّف مباشرة على الكنوز الحضارية العربية. فعلى سبيل المثال، ينحدر الشاعر سامي شالوم شيتريت (المولود عام ١٩٦٠) من أصول عربية مغربية لكنه يعجز عن التعبير عن ذاته بالعربية. وهو لا يجد أية غضاضة في القول علانية: "أنا يهودي-عربي!" كما يعتبر الهويّة الصهيونية هويّة فُرضت عليه في طفولته وحرمته من هوّيته العربية الأصلية. فلقد نشر نصّا بالعبرية بعنوان: "من هو اليهودي وأي نوع من اليهودي"، يتضمّن حوارا خياليا بين المتكلّم وصديقة أميركية تستفسر عن هويّته وتسأله إن كان عربيا أم يهوديا؟ فيجيب "أنا يهودي-عربي". فتقول له: "لم أسمع بمثل هذا الشيء". يحاول أن يقنعها بأن بوسع المرء تصوّر هويّة يهودية-عربية أسوة بالهويّة اليهودية-الأميركية أو اليهودية-الألمانية أو اليهودية-الإنجليزية:

-
المقارنة مستحيلة، فاليهودي الأوروبي شيء آخر.
- كيف ذلك؟
- لأن مصطلح "يهودي" لا ينسجم مع المصطلح "عربي"، ذلك لا ينسجم مطلقا، بل إنه نشاز.
- ذلك لا يعتمد إلا على أذنك.
- أنا لا أحمل أية ضغينة ضد العرب، بل إن لديّ بعض الأصدقاء العرب. لكن كيف يسعك أن تقول "يهودي-عربي" في حين يريد العرب تحطيم إسرائيل؟
- ولكن كيف يمكن أن تقولي يهودي ـ أوروبي في حين كان الأوروبيون قد حطّموا فعلا اليهود؟"
                                                                                                                            نرى في هذا النصّ تصويرا رائعا للتراتبية الحضارية المتمحورة حول أوروبا (Eurocentrisme) التي يجري في أجوائها الجدل حول الهويّة اليهودية-العربية. بيد أنه يصوّر، في الوقت ذاته، الفرق بين "سياسة الهويّة" (politics of identity) وبين ما يمكنني أن أسمّيه "سياسة الهويّة المتفرّدة" (politics of singularity) والعملية التي جرى أو يجري، في كلتا الحالتين، بناء وصياغة الهويّة اليهودية-العربية. وفي اعتقادي أن تصريحات مثل "أنا يهودي ـ عربي!" لم يتمّ التفوّه بها إلا في العصر الحديث وفي سياقات محدّدة فقط. فقد أمكننا ملاحظتهما خلال العقود السابقة، لكن السياق كان يقوم دائما على الاختلاف والسلبية. والحقيقة أن مثل هذه التصريحات أطلقها أشخاص كانوا يرزحون تحت حالة تهميش أو صدرت عنهم في حالة احتجاج ضد هيمنة سياسة، اجتماعية أو ثقافية. وهي بشكل عام جزء من "سياسة المقاومة" (politics of resentment) أو لعبة الأقنعة (game of masks) على المسرح السياسي الإسرائيلي المحلّي. إن "سياسة الهويّة المتفرّدة"، من وجهة نظري، أنجع وأنجح بكثير في إيضاح ما حدث في العشرينات ببغداد على سبيل المثال، يومها عبر المثقّفون اليهود الشباب عن انتمائهم للوطن العراقي وللثقافة العربية، ليس من باب محاربة جهة أخرى، بل من باب الإيجابية البحتة، وهو ما لا يحدث ولا يمكن أن يحدث اليوم بسبب سياسة التهميش، الاستثناء والإقصاء التي تمارسها الصهيونية.

ربيع بغداد
 لم يكن ربيع بغداد في عشرينات القرن العشرين قصيرا كربيع براغ في ستينات القرن نفسه، لكنه كان قصيرا، لسوء الحظ، عن خلق نقطة انطلاق لمستقبل يختلف عن ذلك الذي مرّت به منطقة الشرق الأوسط في السنوات اللاحقة. لو نجحت بغداد ذلك الزمان أن تورث لأهالي الشرق الأوسط، على جميع مذاهبهم، تلك القيم الحضارية والإنسانية التي تشكّل منها ربيعها المشرق لكان تاريخ هذه المنطقة اليوم محفوفا بالرفاهية والازدهار بعيدا عما جرّبه أهاليها من ويلات الحروب و الضغينة المتبادلة طيلة معظم عقود القرن الماضي. كانت هذه، في اعتقادي، إحدى أعظم الفرص التي تم تفويتها في تاريخ هذا الجزء من العالم. لقد تمتّع يهود بغداد، مثلهم مثل سكانها الآخرين، بثمار هذا الربيع الذي بدأ بعد تأسيس الدولة العراقية، وكان لديهم الكثير من الأسباب التي حدت بهم إلى الاعتقاد بأن المجتمع المحلي المحيط بهم، وفي مقدّمته الملك فيصل (١٨٨٣-١٩٣٣)، كان يروم دمجهم التامّ بكل ما أوتي من قوة. قبل وصوله إلى العراق، ألقى الأمير فيصل خطابا أمام النادي العربي بحلب في ٩ حزيزان ١٩١٩ قال فيه:
"نحن عرب قبل موسى ومحمد وعيسى وإبراهيم. نحن عرب تجمعنا الحياة ويفرّقنا الموت".
وبعد وصوله إلى بغداد، وقبل تتويجه ملكا على العراق، خاطب في الثامن عشر من شهر تموز/ يوليو ١٩٢١، زعماء الجالية اليهودية قائلا:
"لا شيء في عرف الوطنية اسمه مسلم ومسيحي وإسرائيلي، بل هناك شيء يقال له العراق... إنني أطالب من أبناء وطني العراقيين أن لا يكونوا إلاّ عراقيين لأننا نرجع إلى أرومة واحدة ودوحة واحدة هي دوحة جدّنا سام وكلنا منسوبون إلى العنصر السامي ولا فرق في ذلك بين المسلم والمسيحي واليهودي... وليس لنا اليوم إلا واسطة القومية القويّة التأثير".
كما أكد وقتذاك ساطع الحصري (١٨٨٠-١٩٦٨)، المدير العام للتربية والتعليم في العراق، بين ١٩٢٣-١٩٢٧، أن "كلّ من يتكلم العربية هو عربي".
هذه التصريحات من قبل القائمين على العراق الحديث مهّدت الطريق أمام تأسيس مجتمع متعدّد الثقافات منفتح على جميع الطوائف والملل دُعي للانضمام إليه السكّان من المنحدرات المختلفة. وبُنيت هويّة من قرّر الانضمام إلى ذلك الوطن على الإيجابية والشعور بالانتماء أكثر مما بُنيت على السلبية والاختلاف. وقد أسهمت التصريحات أعلاه في تقوية نسيج ذلك المجتمع وبلورة هويّته العراقية العربية المتفرّدة إذ أن هناك رابطة ضرورية بين فنّ الخطابة والهويّة، فليس سؤال "الواحد والكثرة"، الذي تستند الهويّة في جوهره إليه، من اهتمامات الفلسفة فحسب، وإنما يقف في صميم فنّ الخطابة أيضا، وهو في أساسه يتّصل بقدرة المتحدّث أو الكاتب على إشراك الآخرين وجذبهم، وفرض تأثيرهم عليهم. فمهمة الخطيب، كما يقول كينيث برك (Kenneth Burke)، في كتابه المعنون "بلاغة الحوافز" (A Rhetoric of Motives)، هي استثمار هذه الموهبة عن وعي بهدف خلق مجتمع يشعر أفراده بالانتماء إليه. فالخطيب يبعث الوجود في جمهوره، وينسج مجتمعا من المستمعين إليه، و يحرضهم على تمييز أنفسهم عن الآخرين بجمع صفوفهم وتوجيههم إلى غاية مشتركة. ولقد رأينا تجسيدا رائعا لمثل هذه الطريقة في "نسج مجتمع من المستمعين" في الانتخابات الأميركية الأخيرة التي خاضها باراك اوباما (Barack Obama) مستخدما قدرته الباهرة في جذب الأمريكيين وبلورة هويّة تستمدّ حيويتها من الموارد التاريخية واللغوية والثقافية الأمريكية في عملية صيرورة أكثر منها عملية وجود: ليس "من نحن؟" أو "من أين ننحدر؟"، وإنما في الغالب "ما الذي سنصير عليه؟" و "ما هو الدرب عليه نحن سائرون نحو المستقبل؟".

وإذا عدنا إلى كلّ أولئك الذين انضمّوا إلى المجتمع لعراقي الجديد في عشرينات القرن الماضي وعبّروا عن رغبتهم في المشاركة في بنائه، نستطيع فهم التغيير الكبير الذي حدث في حياة المثقّفين والكتّاب اليهود العلمانيين الشباب الذين سيشتهرون لاحقا كعلامات مضيئة في الأدب العراقي. وكان هذا التحوّل حاسما لأنه شمل هويّات متفرّدة مختلفة ولم يكن مشروطا بالتخلّي عن الأطر الفردانية الأخرى سواء كانت دينية، اثنية أو احترافية وما إلى ذلك. فعلى سبيل المثال، نشر الكاتب العراقي الكلداني يوسف رزق الله غنيمة (١٨٨٥-١٩٥٠) في مطلع عام ١٩٢٤ كتابا بعنوان: "نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق" (عن مطبعة الفرات ببغداد). لاحظ غنيمة، في معرض وصفه للطبقات الاجتماعية والمهنية للجالية اليهودية أن يهود العراق يمارسون كافة المهن:
"إلاّ أنك لا تجد بينهم من حملة الأقلام وأصحاب المجلاّت والجرائد. وسبب ذلك أن اليهودي يرمي إلى ما به نفعه وسوق التأليف والكتابة كاسدة في ديارنا فإنهم في هذا الباب يتبعون المثل اللاتيني القائل «عش أوّلا ثمّ تفلسف»
".لكن بعد ثلاثة أشهر فقط من صدور كتاب غنيمة، وفي العاشر من شهر نيسان/ أبريل ١٩٢٤ بالضبط صدر العدد الأول من مجلة "المصباح" العربية. وكان صاحبها ورئيس تحريرها ومعظم كتابها من اليهود. وكان هدف هذه المجلة أن تكون جزءا من الثقافة العراقية العربية ومن تيار الصحافة العربية السائد دون أن تكون لها أيّة غاية يهودية ضيّقة على الإطلاق، ولا سيّما في الأشهر الأولى من إصدارها. وجسَّد صدور "المصباح" التحوّل العظيم الذي طرأ على الحياة الثقافية لأبناء لجالية اليهودية التي بدأ أعضاؤها المثقّفون الشباب يعتبرون أنفسهم جزءا من الأمّة العراقية-العربية الجديدة وطبقتها المثقّفة. وبوسعي أن أقول، مستخدما مفردات غنيمة، أن اليهود بدأوا يتحدّثون آنذاك في "القضايا الفلسفية"، وبالذات حول الأشياء ذات الاستقلالية النسبية عن الحقول الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي غالبا ما تتجسّد بأشكال جمالية كانت المتعة واحدة من أهمّ مبادئها.
ومنذ البداية تأثّر المثقفون اليهود العراقيون الشباب بالرؤية الثقافية التي كان "الدين لله والوطن للجميع" شعارا لها. هذا الشعار، الذي كان أوّل من تفوّه به، حسب معلوماتنا، هو المثقّف القبطي توفيق دوس أمام المؤتمر القبطي بأسيوط عام ١٩١١، مستمدّ أساسا من الترجمة العربية لإنجيل مرقص ١٢، ١٧: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله". ونجد شبيهه في شعار المثقّفين اللبنانيين-السوريين المسيحيين في القرن التاسع عشر "حبّ الوطن من الإيمان". وقد تبنّته أيضا مجلّة الجنان، أول نشرة دورية عربية عمومية تأسّست ببيروت عام ١٨٧٠ من قبل بطرس البستاني (١٨١٩-١٨٨٣) وصدرت حتى عام ١٨٨٦؛ وحرّرت أيضا من قبل نجله سليم البستاني (١٨٤٨-١٨٨٤). ووفقا لهذا الشعار عبّرت المجلّة من خلال أعدادها عن الحاجة الملحّة لاستبدال الرابطة الدينية بالرابطة القومية.
ولقد تبنّى يهود العراق، الذين استلهموا موقف المثقّفين المسيحيين المارّ ذكرهم، شعار "الدين لله، والوطن للجميع"، كما حفزتهم الآيات القرآنية التي تدعو للتسامح الديني والتعدّدية الثقافية مثل «لا إكراه في الدين» (البقرة ٢٥٦) و«لكم دينكم ولي ديني» (الكافرون ٦). واصطفّت نخبتهم، وخاصة المثقّفون العلمانيون الشباب، ضمن الجهود المبذولة لجعل العراق دولة قومية حديثة تتعامل مع كلّ مواطنيها من المسلمين الشيعة والسنة، والكرد، والتركمان، والآشوريين والأرمن المسيحيين، واليزيدين واليهود، على قدم المساواة. أما أحلام وآمال الصهاينة الأوروبيين الخاصّة بتأسيس دولة يهودية قومية في فلسطين، حسب وعد بلفور من عام ١٩١٧، فكانت أمرا غير مرغوب به تماما في صفوف معظم يهود العراق. ولم يكن بوسعنا العثور على أية وثائق تاريخية تعكس تحمّسا لتطبيق هذا الوعد في صفوف يهود العراق في عشرينات القرن العشرين يقابل تحمّسهم للاندماج في المجتمع العراقي العربي. يكفي بنا أن نقتبس ممّا كتبه أرنولد تالبوت ويلسون (Arnold Talbot Wilson )، المفوّض المدني المؤقت في بلاد الرافدين في الفترة ما بين ١٩١٨ و١٩٢٠، في سجّلاته عن تلك الفترة:
"ناقشت وعد بلفور وقتذاك مع العديد من أعضاء الجالية اليهودية الذين كنّا على وفاق معهم. علّقوا بالقول إن فلسطين بلد فقير، والقدس مدينة غير صالحة للسكن. وبلاد الرافدين جنّة مقارنة بفلسطين. قال أحدهم: العراق جنّة عدن ومن هذا البلد طرد آدم - أعطونا حكومة جيّدة وسنجعل البلد يزدهر - وادي الرافدين وطننا؛ وطن قومي سيفرح يهود بومباي وفارس وتركيا بالقدوم إليه! تتوفّر هنا الحرّية والفرصة! قد تتوفّر في فلسطين الحرّية، ولكن لن تتوفّر فيها الفرصة"
.وقال التربوي والصحفي اليهودي عزرا حداد (١٩٠٠-١٩٧٢) في أواخر الثلاثينات: "نحن عرب قبل أن نكون يهودا". كما كتب الأديب يعقوب بلبول (١٩٢٠-٢٠٠٤): "لا يتوقّع الشاب اليهودي في البلدان العربية من الصهيونية غير الاستعمار والهيمنة". عاش معظم السكّان اليهود العراقيين ببغداد واحتلّوا معظم الأعمال في الخدمات المدنية تحت حكم البريطانيين والحقبة الملكية المبكّرة. ويقول نسيم رجوان إنه "يمكن أن يقول المرء بكل ثقة إن بغداد كانت يهودية في النصف الأول من القرن العشرين، كما كان يقال إن نيويورك مدينة يهودية". كان الأفق الحقيقي ليهود العراق، على الأقلّ من وجهة نظر النخبة المثقّفة، عراقيا وعربيا. لقد جمعت مظلّة العروبة العراقية جميع أبناء المجتمع المحلّي على مختلف دياناتهم. ويقول داود صيماح بهذا الصدد:
"لم يطلق يهود العراق على العراقيين من غير اليهود تسمية "عرب"، وإنما استخدموا مفردات "مسلم" و"مسيحي" وحينما كانوا يتكلّمون عن "عرب" فالمعني في أذهانهم كان "البدو" فقط.
إذا عدنا إلى المصباح فنرى أن رئيس التحرير أنور شاؤول، كان يكتب تحت الاسم المستعار "ابن السموأل"، إشارة إلى الشاعر اليهودي الجاهلي السموأل بن عادياء، الذي يضرب به المثل بالوفاء. لقد رفض السموأل، هكذا تسرد الروايات العربية القديمة، تسليم أسلحة عُهد بها إليه، وبالتالي فقد شهد مصرع ولده على يدي شيخ القبيلة البدوي الذي فرض حصارا على قصره كي يقسره على تسليم الأسلحة التي تركت بحوزته. وبفضل ذلك خُّلد السموأل في ذاكرة التاريخ بالقول "أوفى من السموأل". ويعكس قرار شاؤل استخدام هذا الاسم المستعار موقفه العراقي-العربي الذي كان، من منظاره، الموقف الأنسب لانبثاق الأمّة العراقية.
وتصوّر قصيدة شاؤل "الربيع" ، التي نشرت في العدد الأول من "المصباح"، الأمل بحقبة جديدة من الوحدة القومية بعيدا كل البعد عن الانتهازية أو التعصّب الديني. وقال شاؤول في مقدّمته للقصيدة:
استيقظوا، استيقظوا أيّها الكتّاب والشعراء فلقد وافى الربيع سيّد الزمان طلق المحيّا باسم الثغر، وقد ضحكت الطبيعة لبني البشر بعدما أخافتهم بشتائها المرعب أنظروا إلى الحقول والمروج، والحدائق والرياض فلقد اكتست ثيابها السندسية الزاهية واستنشقوا أريج الزهور وطيب عرفها الفائح بين الخمائل والأنهار واسمعوا البلابل والطيور مرحّبة بالربيع المحبوب بتغاريدها المشجّية فوق أفانين الأشجار، وأنتم أنتم أيّها الكتّاب والشعراء ما لي أراكم في سكوت عميق ألستم بلابل الأدب فعلامَ لا ترحبّون بشباب الطبيعة النضر، علامَ لا تؤهّلون بروضة الحياة اليانعة علامَ لا تحيّون الربيع؟

وفيما يلي الأبيات الخمسة الأولى من قصيدته:
وافى الربيع تحفّه الأزهار فشدت مرحبّة به الأطيار
وقف الهزار لديه يخطب بكرة وخطيب هاتيك الرياض هزار
فانهض سميري كي نزور جنينةإن الجنان لفي الربيع تزار
ودع الهموم وخلّني عن ذكرها فالأنس بان وزالت الأكدار
وأدر لنا وسط الرياض مدامة حيث الندامى الطير والأشجار
ويحمل البيت الخامس أعلاه علاقة تحاورية مع الميمية الصوفية الشهيرة لعمر بن الفارض (١١٨١-١٢٣٤):
أدر ذكر من أهوى ولو بملامفإن أحاديث الحبيب مدامي
ويختم شاؤل القصيدة كالآتي:
خير المناظر في الربيع حديقة في وصفها تتناشد الأشعار
الربيع المحبوب، التي ترحّب به البلابل والطيور بتغاريدها المشجّية فوق أفانين الأشجار، هو ربيع الأمّة العراقية العربية، وخير المناظر في هذا الربيع هو الحديقة الوطنية التي تتناشد في وصفها الأشعار. لقد أعلن أنور شاؤل من خلال قوله هذه القصيدة انضمامه إلى الوطن العراقي وإلى أمّته العربية انطلاقا من الفردانية الخاصّة به واندفاعه الشخصي المحض إلا أنه لم يصرّح آنذاك: "أنا يهودي-عربي!" أو "أنا يهودي-عراقي!"، لأن الأمر بدا بديهيا له كما كان كذلك بالنسبة لزملائه المثقّفين العراقيين الآخرين من غير اليهود. ولقد عثرت، ودون أي جهد خاص، على نصوص تتناول ذلك الربيع ببغداد في عشرينات القرن الماضي بقلم السني معروف الرصافي (١٨٧٥-١٩٤٥) والشيعي محمد مهدي الجواهري (١٨٩٩-١٩٩٧) والكردي جميل صدقي الزهاوي (١٨٦٣-١٩٣٦) والمسيحي يوسف رزق الله غنيمة (١٨٨٥-١٩٥٠). لا أحد منهم تباهى بأنه عربي أو عراقي إذ كان ذلك بديهيا كما كان بديهيا بالنسبة لأنور شاؤل - كان انتماؤهم جميعا يستند إلى كون كلّ منهم جزءا من الأمّة العراقية وكانت لغته الأمّ هي العربية وكان مستقرّه الأوحد هو الوطن العراقي، ولم يكن للاختلاف في الدين أية أهمية إذ أن الإيمان الديني، في المنظور السائد في تلك الفترة، كان أمرا بين الفرد وخالقه: "الدين لله، والوطن للجميع".

اليهود الألمان واليهود العرب
 اتخذت تحقيقاتي حول الهويّة اليهودية-العربية منحى جديدا حين كنت عضوا في معهد الدراسات العالية في برلين (Wissenschaftskolleg zu Berlin ) في السنة الأكاديمية ٢٠٠٤-٢٠٠٥. فبعد زيارة للمتحف اليهودي ببرلين لاحظت بنية الهويّة القابلة للمقارنة من خلال رصد ظاهرتين فريدتين في الحياة اليهودية الحديثة، وأعني اليهود الناطقين بالألمانية واليهود الناطقين بالعربية. فاليهود العراقيون، وخاصة في بغداد، خلال النصف الأول من القرن العشرين، لم يكونوا مختلفين من حيث صلتهم بالمجتمع المحيط بهم وتعاملهم معه عن يهود الطبقة الوسطى في ألمانيا، أو في المناطق الأوروبية الأخرى، التي شعر فيها اليهود أنهم ألمان أو أوروبيون أكثر من شعورهم بأنفسهم كيهود، مغلّبين هويّتهم القومية المحلّية والثقافية على هويّتهم الدينية. وحينما بدأت دراسة هذا التشابه، فكّرت فقط بظاهرتين مماثلتين جوهريا في بقعتين مختلفتين من العالم، لكنني اكتشفت بالتدريج منظومة متشابكة من العلاقات بين اليهود العراقيين والأوروبيين تمتدّ إلى منتصف القرن التاسع عشر. وهاكم بعض الأمثلة:

١. نشط يهود بغداد كمراسلين وممثّلين للصحف اليهودية الأوروبية الناطقة بالعبرية مثل هاماجيد (Ha-Maggid)، التي تعتبر أول صحيفة عبرية تأسّست في أوروبا.

٢. دأب اليهود العراقيون الميسورو الحال على إرسال أبنائهم لتلقّي التعليم في المؤسّسات الأوروبية. وكمثال على ذلك فقد درس ساسون حسقيل أفندي (١٨٦٠-١٩٣٢) علوم الاستشراق في فيينا حيث كان العديد من اليهود يتحدّثون الألمانية الفصحى، اتخذوا أسماء ألمانية، وصاروا يرتدّون الملابس ويتصرّفون كالنمساويين والألمان. وعثرت على مقابلة معه أجرتها صحيفة "هاعولم" (Ha-‘Olam)العبرية في فيينا يوم العاشر من مارس ١٩٠٩. وعبّر ساسون أفندي، أحد ممثّلي بغداد وقتذاك في البرلمان العثماني، في تلك المقابلة عن وجهات نظر ألهمتها الأفكار التي كانت سائدة في صفوف اليهود الأوروبيين. وهنا اقتباس منها: "يريد السيد ساسون أن يندمج في المجتمع العراقي، ولأنه لا يرى أي أفق إيجابي يمكن أن يوحّد اليهود، غير الدين، فإنه قد يرضى بالذوبان مع العرب داخل المجتمع العراقي". ولقد احتلّ ساسون أفندي لاحقا منصب وزير المالية في عدة وزارات عراقية تشكّلت في عشرينات القرن العشرين.

ونعرف أيضا عن مهاجرين يهود أوروبيين وصلوا إلى بغداد حاملين بشرى التنوير والعلمانية. ويمكننا أن نذكر، على سبيل المثال، يعقوب أوبرماير (Jacob Obermeyer) (١٨٤٥-١٩٣٥)، الذي عاش في بغداد بين عامي ١٨٦٩-١٨٨٠، وحاول بمجهوداته الإصلاحية تحديث الأطر الدينية للجالية اليهودية المحلية.
٤. هناك أيضا العلاقات العائلية: على سبيل المثال، انحدر الموسيقار العراقي يوسف حوريش من نسل عائلة أوروبية هاجرت إلى البصرة. أما جَّد أنور شاؤل فكان أحد المهاجرين اليهود من النمسا إلى بغداد في أواسط القرن التاسع عشر. وأنصح كل من يودّ تقصّي تاريخ هؤلاء المهاجرين بقراءة الرواية التاريخية "الساعاتي" (Der Uhrmacher) للكاتبة بربارا تاوفر (Barbara Taufar) المنشورة عام ٢٠٠١.
وسأختم هذه العجالة بما أشارت إليه المفكّرة اليهودية-الألمانية حنا أريندت (Hannah Arendt) (١٩٠٦-١٩٧٥) من حيث مصير الهويّة اليهودية-الألمانية والتي يمكن أن يلقي الضوء على الهويّة اليهودية-العربية ويوضّح العلاقة الجدلية بيم الظاهرتين الفريدتين. لقد بدأت أريندت بكتابة سيرة حياة امرأة يهودية، هي راشيل ليفن فارنهاغين (Rahel Levin Varnhagen) ، في أواخر العشرينات من القرن العشرين ببرلين إلا أنها اضطرّت للهروب من ألمانيا عام ١٩٣٣ وأكملت كتابها بباريس. ولم ينشر الكتاب حتى عام ١٩٥٧، برعاية معهد ليو بيك (Leo Baeck Institute) وبترجمة انجليزية. كتبت أريندت في مقدّمة الكتاب:
"إن اليهود الألمان وتاريخهم عبارة عن ظاهرة فريدة بحدّ ذاتها؛ لا وجود لشيء مماثل لها حتى في الأماكن الأخرى التي شهدت اندماج اليهود في مجتمع غير يهودي. والتحقيق في هذه الظاهرة، التي تجد تعبيرها، ضمن أشياء أخرى، في ثروة وموهبة أدبية إبداعية علمية وفكرية مدهشة، هي مهمّة تاريخية من الطراز الأول، لا يمكن بالطبع التصدّي لها إلا الآن، بعد أن وصل تاريخ اليهود الألمان إلى نهايته".
الآن، وبعد أكثر من خمسين سنة، بإمكاننا قراءة الفقرة ذاتها ثانية، مع تغيير كلمة واحدة تكرّرت مرتين:
" إن اليهود العرب وتاريخهم عبارة عن ظاهرة فريدة بحدّ ذاتها؛ لا وجود لشيء مماثل لها حتى في الأماكن الأخرى التي شهدت اندماج اليهود في مجتمع غير يهودي. والتحقيق في هذه الظاهرة، التي تجد تعبيرها، ضمن أشياء أخرى، في ثروة وموهبة أدبية إبداعية علمية وفكرية مدهشة، هي مهمّة تاريخية من الطراز الأول، لا يمكن بالطبع التصدّي لها إلا الآن، بعد أن وصل تاريخ اليهود العرب إلى نهايته".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رؤوبين سنير

أستاذ اللغة والأدب العربيين في جامعة حيفا
ترجمه عن الإنكليزية: ماجد الخطيب، راجعه ونقحه: رؤوبين سنير
قصص للكاتبين سمير نقاش وشالوم درويش:
ارحل عن الوطن وعن أرض أجدادك" مجموعة قصصية لكتاب مهاجرين يهود-عراقيين في إسرائيل. هؤلاء الكتَّابُ المنحدرون من أصول كهذه معرضون لكل التجاذبات الموجودة لأن مواقفهم لا تتلاءم مع نمط الدولة القومية السائد.
مراجعة بقلم أندرياس بفليتش.
كتاب ساسون سوميخ بغداد، أمس:

شكَّل اليهود في العراق سابقًا الشتات اليهودي الأقدم؛ إذ يعود تاريخ وجودهم هناك إلى أكثر من ألفي وخمسمائة عام. في العام 1951-1952 هاجر معظمهم - مائة وعشرون ألفا من مائة وأربعين ألفا - إلى إسرائيل. يصف ساسون سوميخ ما سبق ذلك، أي فترة الثلاثينيات والأربعينيات، في كتابه "بغداد، أمس - ذكريات شاب عربي يهودي". بيآته هينريشس راجعت الكتاب.
من لمبرغ إلى باكستان:
ليوبولد فايس ولد في عائلة يهودية ثم اعتنق الإسلام لينتهي بترجمة القرآن إلى اللغة الإنكليزية؛ حياة تنقل دائم ماتزال مثار إعجاب إلى اليوم. جوزيف هانيمان يقدم هنا هذه الشخصية.