viernes, julio 25, 2008

المغامرة اللغوية في ديوان «كما لو رآني..» لعبداللطيف شهبون //عبداللطيف الزكري

المغامرة اللغوية في ديوان «كما لو رآني..» لعبداللطيف شهبون

2008-06-20
عبداللطيف الزكري*
إن الممارسة الشعرية بحث عن معرفة سرية تقوم في الغالب على إرادة لاواعية في توطيد الصلة بين الإنسان والعالم، بكل ما يحفل به العالم من حياة مفعمة بالأحاسيس والحدوس والرؤى والأحلام والاستيهامات والخيالات..
إلى وقت ليس ببعيد، كان التمييز بين النثر وبين الشعر خاضعا لقواعد علوم الآلة وبخاصة علم العروض. وكان الشعر عند النقاد الكلاسيين يفترق عن النثر بضوابط المعنى والوزن والقافية. إن هذا التمييز شكلي تماما، يجدر بنا أن نتجاوزه إلى ما هو أبعد وأعمق. إن الشعر -في اعتقادي- يتحدد بحرارة معينة وبارتفاع ملموس في الجرس، وبالأخص باستعمال متفرد للغة، هذا الاستعمال الذي أميل إلى تسميته بالمغامرة اللغوية، وهي مدخلي إلى ملامسة المعرفة السرية في ديوان الشاعر عبداللطيف شهبون (كما لو رآني..). في أي مظهر تتجلى المغامرة اللغوية في هذا الديوان؟ ما جماليتها؟ وما أثرها على انبثاق الدلالات الشعرية وعلى تبلورها؟
أولا: الينابيع الجوانية:
«تصنف الدلالات اللغوية في أصناف ثلاثة: فكرية حضورية، ولفظية صوتية، ثم خطية رقمية.هذا التصنيف الدلالي يقوم على الوصل بين الطبيعة الجوانية والمظاهر الوجودية. وتلك العلاقة الجمالية تحمل أمانتها الشخصية الإبداعية، لأنها تدرك أن اللغة الفنية توحد بين الخلق الفكري والتصوير البياني..»(1). ومن أهم تجليات الينابيع الجوانية عند الشاعر عبداللطيف شهبون في ديوان (كما لو رآني..) التراث الصوفي بكل زخمه واحتشاده الرمزي، فمنذ عتبة الديوان يصرح الشاعر أن «كما لو رآني حرف وحجاب»(2). بمعنى أنه لغة ورموز سرية محتجبة، تتطلب لاكتشاف شفوفها وتوهجها اقتفاء أثر الشاعر في قصائد ديوانه الذي كان معراجه إلى سماء الفتح(3) كما قال.
وغير خفي أن الألفاظ المتداولة في هذه العتبة، التي يشرع بها الشاعر ديوانه، هي من صميم المعجم الصوفي، ولذلك يحق أن نقول إن التراث الصوفي هو الينبوع الثري الذي شكل جوانية الشاعر، فجعل دواخله تحتدم، وتفيض بفيوضات وكشوفات تجلوها قصائد الديوان، يقول الشاعر في قصيدة (أي شيء عنك ينسي؟)
«لهف قلبي..
حار لبي
أين حرفي..؟
أين ظلي..؟
قل بربي.. !»(4)
فهذا المقطع على وجازته وكثافته يلخص بدقة ما نسميه (الينابيع الجوانية) فالشاعر يومئ إلى حاله بقوله: «لهف قلبي.. حار لبي»
فهو متحرق مشوق، وصل به الأمر إلى مقام الحيرة العقلية، وإذ يستنجد بقلبه، يتساءل عن حرفه، والرمز المتضمن في سؤاله «أين حرفي؟» هو سؤال الكينونة، لأن الشاعر لا يحقق ذاتيته إلا بلغته، وهي التي تؤشر إلى عمق تجربته وارتباطه بالعالم، مهما حلق وجنح. ولا غرابة أن يتلو هذا السؤال عن الحرف، سؤال آخر عن الظل «أين ظلي..؟» بما يدل عليه الظل، حتى في الدلالة العادية المتداولة، على الصورة الأخرى الملازمة للشخصية.. لكنها صورة لا تدل على الحقيقة الجوهرية لهاته الشخصية، باعتبار تلك الحقيقة محتجبة. ولعله لهذا السبب يطالب الشاعر الآخر بهذا النداء: «قل بربي..!»
إن الينابيع الجوانية متعددة في ديوان (كما لو رآني..) فهي تراثية عربية إسلامية وإنسانية عالمية، شكلت وجدان الشاعر، ومنها بنى ذاتيته وتجربته الشعرية، فهو يمزج بين تجربة الذات - وهي صميم الجوانية -وبين التراث المتعدد الذي ألمحنا إليه من قبل.
تتبدى المغامرة اللغوية لدى الشاعر عبداللطيف شهبون، في قدرته الخلاقة على منح اللفظة الواحدة بعدا كينونيا شاملا، فهو -مثلا- يقول في المقطع الأول للقصيدة التي عالجنا مقطعها الثاني أعلاه:
«إيه ظلي
نورت دنياك نفسي
أي شيء عنك ينسي؟
في حياتي.. في شتاتي..
أو مماتي؟»(5)
فلفظة واحدة، هي لفظة «الظل» تصبح شمولية الدلالة على «الذات الشاعرة في الوجود» تطال الحياة والشتات والموت. إننا إذا أمعنا النظر في لفظة «الظل» في علاقتها التجاورية بـ «الحياة والشتات والموت» نجدها ذات حمولة فلسفية صوفية وجودية، لأنها تنم على تجربة الشاعر، تجربة «الشتات» التي قد تعني، من ضمن كثير مما يمكن أن تعنيه، التسكع في العالم نظرا للحيرة التي تلف الشاعر، وهو ما يصرح به الشاعر نفسه حين يقول -في هذه القصيدة ذاتها- «حار لبي». واللب هو الجوهر في الكينونة الإنسانية. فإذا كان هذا اللب حائرا، فهذا يعني أن المسالك في الطريق وعرة، فكيف يجتازها الشاعر؟
ثانيا: الخيال الإبداعي
لعلنا لا نقول جديدا، بعد الذي تقدم، إذا خلصنا إلى أن الشاعر يتجاوز حيرته الوجودية باعتماد الخيال الإبداعي الخلاق، الذي تطفح به قصائد الديوان. ومن هذه القصائد التي تجلو هذا الأمر، والتي يمكن اتخاذها نموذجا لخديناتها الأخريات من نفس المنحى، قصيدة «سفري»، يقول الشاعر فيها: «ترف خيالات ذكراك حولي..
تلامس عيني،
وتلفح ظلي بنار
أجدل منها ضياعي
أجوب بها طرقا في الشمال..
وأخرى جنوبا..
بأقصى الجنوب
قباب زهت بالفرح
في بحار الوله
وسواحل ذاتي/السفر»(6)
فأول ما يطالعنا في هذه القصيدة، كلمة (ترف) وهي في أصلها تدل على حركة الجناحين عند الطائر المحلق، والشاعر عندما يردف بهذه الكلمة/الفعل، كلمة (خيالات) يستعير التحليق للخيالات، وأية خيالات هي؟ إنها»خيالات ذكريات» المعشوقة - ولنا أن نقول بدون تردد إنها هي»الحرف والحجاب» الذي يحيا الشاعر طوره المتبقى (حسبما يلمح في عتبة الديوان المشار إليها سابقا)، فهذه الخيالات المجنحة تطوف بالشاعر إلى حد أنها تلامس عينيه، والمغامرة اللغوية -ها هنا- تتجسد في شكل خيال إبداعي خلاق يجعل المجرد محسوسا، في صورة شفيفة لامعة، تزداد شفوفا حين نلمس الرمز الشعري -أعني الرمز الذي تومئ إليه كلمة»ظلي»- الذي يتردد في هذه القصيدة متصلا بلفح النار، بمعنى اللهيب الذي ينقدح من خيالات الذكريات. فالشاعر مفعم بالذكريات إلى درجة الاحتراق. وهكذا تتبلور الطاقة الإبداعية الخلاقة بخيال رمزي يشف عن مغامرة لغوية، يركبها الشاعر في بحار الإبداع. إن تلك الذكريات تسعفه في تجديل ضياعه (تسكعه في العالم كما قلنا سابقا) حيث يجوس في الطرقات شمالا وجنوبا.. وهاهنا في الجنوب ترتفع، بفضل الخيال الإبداعي، قباب تزهو بالفرح، في بحار العشق حد الوله. ولا يقر للشاعر قرار، كأنه السندباد الجديد. فسواحل ذاته هي السفر.. فهل تمكنا من السفر في هذا «السفر»؟هل استجلينا المغامرة اللغوية التي تنم عليها قصائد ديوان (كما لو رآني..) أملنا أن نكون قد حققنا قليلا من ذلك، لأن اللغة هي «مسكن الوجود» بتعبير الفيلسوف الألماني هايدجر، وهي في الآن ذاته «بحر لا شاطئ له» كما قال القائل.
إن جمالية لغة الشاعر عبداللطيف شهبون في ديوان (كما لو رآني..) تستمد شفوفها وتوهجها من مصدرين أساسين هما الينابيع الجوانية والخيال الإبداعي، واعتمادا عليهما اتسمت لغته بالطاقة الخلاقة في تحويل دلالات المفردات اللغوية، وفي إشباعها بالرموز الشعرية الكلية، وقد تأتي ذلك أيضا بوساطة التصوير والبناء الجماليين. وتأتي عن ذلك كله خلق رؤية شعرية تنم على مغامرة لغوية متميزة، وفلسفة متفردة للعشق الإنساني في نبله وسموه..
*باحث وناقد مغربي
الهوامش:
(1)عبدالوهاب أمين أحمد: المغامرة اللغوية في الفتوحات المكية، القاهرة، دار المعارف، (1995) دون طبعة، ص137.
(2ـ 6)عبداللطيف شهبون: كما لو رآني..، طنجة (المغرب)، منشورات سليكي إخوان، 2007، ط1، ص3.