miércoles, agosto 06, 2008

تكفيك إشارة.. عبد اللطيف شهبون

تكفيك إشارة..


عبد اللطيف شهبون
عبد اللطيف شهبون
عدت في الآونة الأخيرة إلى المدونة الشعرية الصوفية الباذخة لشاعر مغربي فذّ هو أحمد بن عبد القادر التستاوتي (دفين باب البراد عيين بمكناسة الزيتون عام 1127 هـ). طفت في أرجاء هذه الحديقة الصوفية واستوقفتني تلك العتبة النظرية التي وضعها التستاوتي لملحوناته المضمنة في الباب الخامس من «نزهة الناظر وبهجة الغصن الناضر»، والتي تحيل القارئ على موجهات هذا الشكل من أشكال التعبير الفني المؤسس على بلاغة شعبية باعتبارها آية تواصلية لا تتحكم فيها الأنساق اللغوية الفصيحة ولا الطرائق الأدبية المعتادة في التعبير الفني الفصيح.. مركزا على السماع أو الأحبولة التي تقتنص فيها الأرواح علي حد قول أبي العباس في رسالة صوفية جميلة بعث بها إلى أحد أصفيائه (الحاج المفضل) في أواخر العشر الأواسط من صفر عام اثني عشر ومائة وألف.. ورد فيها أن «.. من خلص من الدهش، ورق له المحبوب وهش.. نطق بالثناء الجميل في حضرة التبجيل:
خــــــدك ضــــي اهــــــــــــلالْ
وللي شافـو ف النــاس يختبــــل
وانــــــــت غــــــيــر اغـــــــزالْ
ماخليـــــــت لـي كــــل العقــل
ـ ..ومن هذا الأسلوب، العجيب الأنبوب:
حسنــــك حســـــــــنْ اغــريـــــــبْ
يجمــــع لي بين الـــــدا والــــدوا
وانـــــت غــصـــــــــن ارطــيــــبْ
وللــي شافـــك يبـــرا من لهــــوا
ويسترسل التستاوتي في سرد مقطوعاته الشعرية الملحونة وهو واقع تحت تأثير سكينة الانتشاء الصوفيّ مقرا أنه يتغنّى.. ويتمنّى أن يتهنّى معللا بوحه الجميل «فللأرواح مراتب في عامل الملكوت ومشارب في عالم الرحموت.. ومطالب في عالم الجبروت.. ولكل مقام مقال.. ولايدعي أحد من غير ماله من المقامات والأحوال، فالمهجور ينبغي أن يسمع مايطمعه في اللقاء.. والواصل ينبغي أن يسمع مايقتضي دواعي البقاء.. ولولا أن الأرواح مكبلة في أكبال الشهوات، ومقفصة في أقفال المخالفات لانخرق الحجاب.. ورأيت العجب العجاب.. وقد بسطناكم بما المسكوت عنه أولى وأعذب وأحلى:
ستكفيك من ذاك الجمال إشارة ودعه مصونا بالجمال محجبا
تدور موضوعات القصائد الملحونة للتستاوتي في حقول دلالية كبرى هي: التوسل، والحب الصوفي، والمراجعات، في تفاعل مع المحيط الاجتماعي والسياسي يقول متوسلا بأهل الله:
يا اهـل الغيــاث، يااوتــاد الزمــــان
ياقطبنا وسيــاد كــــل النـــــــــاس
ياسادتي هــــــذا الظـــــلام دهـــان
واقماركم غــابـــــت ولانــبــــــــراس
فكــوا لعبــاد بحرمـــة لعــدنـــــــان
واعطـوا الجميـع أمـــان من لانغــاس
ـ .. ويقول مشيرا إلى الحقيقة الصوفية:
قالت لي ليلـــى وقولها مقبـول صحيـح
ما يوصلـــي غير فـــــاني من لغــــيار
ـ .. وعن هذه الحقيقة يشير مراجعا ولده المأمون:
ف كبـد السّـمـــــا ترْمـــــي لانـــــوارْ
واضْرير العين يابْني: كيـــفْ يراهـا؟!
وفي ملحونة ينزع فيها منزع الصوفيين في التعبير عن مواجدهم حيث تلتبس نفوسهم بصور المحسوسات، مبطنة أبعادا ذاتية وموضوعية:
هبـت ريـــح ازمــان، اريـــاح الغـيــض
واهـتــزت منها اجْــبالْ لعيــاشــــــي
أشعار أبي العباس أحمد بن عبد القادر التستاوي تجسيد لمعاناة مثقف مغرب القرن الحادي عشر الهجري وهو واقع نهب الانحلال والقهر.. وهي في ثوب متحرر من الترتيب المعتاد في الفصيح يكسب اللغة العامية قدرتها على التأثير ممايرفعها من مستواها السطحي إلى مستوى إيحائي راقٍ بواسطة شبكة العلاقات الرامزة والرمزية بين كلمات تخلق كونا شعريا أثيرا.. ومع ذلك لم تحظ الملحونات التستاوتية لا بالتعريف ولا بالدراسة..ولو قدر للباحثين والمهتمين بالتراث الشعبي الاطلاع على هذه الملحونات وملحونات العائلة التستاوتية (أحمد، العياشي، محمد الحاج، ابراهيم، المأمون، محمد الشريف..)لوقفوا على مادة غزيرة جديرة بأن يعرف بها وتدرس في سياقاتها الفنية والثقافية والاجتماعية والسياسية والانسانية
.