jueves, abril 01, 2010

احتفاء إسباني بترجمة 'هبة الفراغ' لمحمد بنيس



احتفاء إسباني بترجمة 'هبة الفراغ' لمحمد بنيس مزوار الادريسي
4/1/2010

للشِّعر مواعيدُه التي لا يخلفها، يجيء حين يحدس أن عليه الحلول، فيخوض سفره عبر طرقه السرية ذات الانحرافات الجميلة، التي يتقن الشعراء وحدهم اجتراحها، وينزل بأرضه متشحا بإغوائه، مربِكا اللحظة بمنسوبه الغامض الفاتن، الفتنة إياها التي تكون أبهى، حين تسمح لنا بالتلصص عليه عبر ثقب الخيانة، والمغامرةِ بمطاردة أمواجه المنداحة، التي لا تنتهي إلى شيء، ومع ذلك فهي تقول كل شيء، أو هكذا يتراءى لنا.السَّفر عبر الخيانة كان عنوان اللقاء الذي التأم فيه الغاوون من عشاق الشعر والشعراء، حول الشاعر محمد بنيس، يوم 18 آذار ( مارس) 2010، في جلسة احتضنتها مكتبة خوان غويتيصولو في معهد ثربانتيس، في طنجة، والتي نُظِّمتْ بالتعاون مع ' ملتقى الشعر الإيبرومغربي'، قصد تقديم ديوانه ' هبة الفراغ' في سفرته الإسبانية 'El don del vac'o'، التي كان دليلها المستعرب لويس ميغيل كانيادا، والصادرة عن منشورات الشرق والمتوسط Ediciones del oriente y del mediterrçneo.كان لا بدَّ أن يكون للاحتفاء باليوم العالمي للشِّعر موعده البهي، إنها توصية احتفائية اختارها الشعر لذاته، حيث تقدَّمت القصيدة طازجة، مهَّد لها الناقد الإسباني خِيسُوس وِيرْطَا بديباجة، التمستْ مداخل عملية إلى قصيدة محمد بنيس، ويسَّرتْ للسائر في مناكبها صوى تقيه التيه، لأن ما تحت سماء القصيدة البنيسية أرْحَب مما قد نتصوَّر. إنها حسب خيسوس ويرطا أرضٌ تتصادى فيها أصواتٌ وتجارب متنوِّعة، وتؤلِّف بينها كيمياء مخصوصة، لا تحيل إلا على ذاتها، فالانصهار كليٌّ، وهو يدلُّ على صدوره عن جغرافية قصية غير مكتنهة. القصيدةُ عند بنيس مربكة، فهي تتقدم جسرا بين التقليد الشعري العربي والحداثي، بين المواضيع الكلاسية في الحب الصوفي واستكشاف المجهول، دون أن تغفل معانقة الالتزام، وخصوصا بالقضية الفلسطينية.لقد سلك محمد بنيس - حسب خيسوس ويرطا - الطريق إلى الشعر عبر الشعاب التي طَرَقها خوصي آنخيل بالنطي وأنطونيو غامونيدا وغيرهما، طريق طلب المعرفة بما لا يوصف، والذي لا طريق إليه سوى الكلمة الشعرية نفسها. استهلَّ الشاعر محمد بنيس كلمته بشكر معهد ثربانتيس في طنجة و' ملتقى الشعر الإيبرومغربي' على الدعوة، وشُكْرِ خيسوس على قراءته النقدية التقديمية وعلى قراءته لنص ' كلمات' في أصله بالعربية، مؤكِّدا أنَّ الثقافة الإسبانية كانت ولا تزال جزءاً رئيسياً من الثقافة العربية، وأنه ' حين يتعلَّق الأمر بإسبانيا، فإنه عليَّ الاعتراف بأني كنتُ دوما محظوظا، ذلك أن فيديريكو أربوس ترجم لي نصوصا أيام شبابي سنتي 76و77، وأني تعرَّفت إلى الشاعر أنطونيو غامونيدا في ملتقى شعري دولي، فتوطَّدت العلاقة بيننا حدَّ اليوم، وأنه تُرجِمَ لي حدَّ الآن ديوانان إلى القشتالية، وأني مغرَمٌ بقراءة الأدب الإسباني، ولو بوساطة الترجمة.'كان لا بدَّ لهذه التوطئة أن يعقبها الإبحار مع بنيس في لُجِّ قضايا الشعر، فكان التحديد الفاصل بين كتابة القصيدة وقراءتها... القراءةُ حرَّةٌ، وهي ترتهن إلى قوة القارئ الذي يكون حرًّا في استنطاق القصيدة التي أصبحتْ ملكه... القصيدة هبة الفراغ، وللقارئ أن يملأ من الفراغات ما يشاء، لكنَّه لن يستطيع، مهما حاول، أن يُحكم قبضته عليها، وأن يستنزف معانيها ودلالاتها، لأنها ببساطة مسكونة بالفراغ الذي يُشرعها على اللانهائي من القراءات واللامحتمل من التأويلات... وهذا لا ينفي عن القصيدة كونها معرفة... المعرفة في الشعر لا علاقة لها بالتاريخ، أو علم النفس، أو السوسيولوجيا، أو الأنثروبولوجيا، إلخ... للقصيدة معرفتها المتفردة التي لا يدركها سوى الشعراء وعشاق الشعر، ولا يمكننا إطلاقا أن ننتظر من الشعر معرفة شبيهة بما في العلوم الإنسانية. المعرفة في القصيدة تصدر عن تجربة تكاد لا تختلف في شيء عن تجربة المتصوف، فقط يكمن الفرق في أن المتصوف مَهْمَا أشرقتْ عبارته فهو يظل ينحو منحى دينيا في عبارته، في حين تنصرف القصيدة في حرية، لا تدين لأي جهة غير الشعر، إلى الإنساني والكوني متوسِّلة بالكتابة.وعلى ذكر التصوف والصوفية، يحضرني اسم علم من أعلامه، قبرُه يبعد عن هذا المكان كيلومترات قليلة: إنه سيدي أحمد بن عجيبة، صاحب التجربة المتميِّزة، وأُضْطَرُّ إلى التساؤل أمام فرادة كتابته وفكره إن كُنَّا فعلا نعنى بتراثنا، ونصغي إلى أصواته، ونفيد منها حقًّا. بسط هذه الأمور يقود إلى الإقرار بأن الشعر يعيش تحديا كبيرا، إذ كل ما يحيط به يريد أن يخرسه، في الوقت الذي نحن فيه أحوج ما نكون إليه. إن أكبر تحد يمكن أن ترفعه القصيدة هو أن تستمر حاضرة مواجهةً الدمار الهائل والزاحف على القيم الإنسانية والجمالية من قِبَل العولمة ولواحقها، لذلك أجدني دوما أرفع شعار اللامهادنة مع كل أشكال الضغط والكبت اللذين تمارسهما بعض المؤسسات أو الجماعات، إنه شيء أحمله في دمي، ودفعتُ ثمنه غاليا... حتى إني تمنَّيْت مرارا لو أني كنت قد متُّ ورحلت عن هذا العالم قبل هذا الزمان. حقيقة، أني كنت دوما في تحد مع زمني... شكرا لكم على إعادتي إلى مرافئ زمنية أصررت فيها على الإبحار في اتجاه زمن مغربي حلمت به. آمنتُ أن الزمان الثقافي هو البداية لكل الأزمنة الأخرى... لكني اكتشفت شيئا غير طبيعي، لقد وقفتُ على مقاومة داخل الجغرافيا الثقافية العربية، مقاومة تمارسها، للأسف، النخبةُ المثقفة، التي تقف في وجه خمسة قرون من الثقافة الأوروبية التنويرية... المدهش أن المجتمع العربي لم يكن إطلاقا ضد التغيير والتحوّل... أنا مقتنع أن مأساتنا في نخبتنا التي تعترض عليه حفاظا على مصالحها دون أدنى شك..لقد آمنتُ دوما أن المدخل الحقيقي إلى الحداثة بوابَتُه السؤال، فالإبداع لا يكون إبداعا إلا إذا ساءل وتساءل، ونحن حقيقة نفتقد مثل هذه الممارسة، على الرغم من أنها تجلب إلينا المتاعب. أنا مدين لهذا الجمهور الممتع بحضوره وإصغائه وأسئلته، مدين لكم بهذا الزمن الجميل الذي فك الطوق عن عزلة وحصار أقاسيهما، ولا أخفيكم أن لهذا اللقاء بالنسبة إليَّ رمزيته. لقاء طنجة هذا، مع أحباء الشعر في ' ملتقى الشعر الإيبرومغربي' ومعهد ثربانتيس ذكرى جميلة سأحتفظ بها ما حييت. ' شاعر ومترجم من المغرب، المداخلات التي كانت بالعربية والإسبانية عمل على ترجمتها فوريا مزوار الإدريسي.