martes, septiembre 16, 2008

بلاغة المنفى.. عمود عبد اللطيف شهبون

بلاغة المنفى..

عبد اللطيف شهبون
عبد اللطيف شهبون
لم أصادف في مسيري القرائي نصا يشخص دلالات المنفى ويفتتها ويجلّيها فهْماً وتفسيرا وتأويلا ذاتا وموضوعا مثل آخر نص للراحل محمود درويش، هذا النص لم ينشر في كتاب بل في مجلة أكاديمية محدودة الانتشار هي «المجلة الثقافية» التي تصدرها الجامعة الأردنية ( أبريل 2008).
يرى درويش أن للمنفى أسماء كثيرة.. ووجهين أولهما داخلي بما هو غربة عن المجتمع والثقافة.. وتأمل عميق في الذات بسبب اختلاف الرؤية للعالم ولمعنى الوجود عن رؤى الآخرين، بمعنى إقامة الإنسان في كيان الحرمان من حقّيْ الرأي والتعبير تحت ضغط إكراهات السياسة والمجتمع. وثانيها خارجي بما هو انفصال عن الفضاء المرجعي.. عن المكان الأول.. عن الجغرافية العاطفية.. مما يولد انقطاعا حادا في السيرة وشرخا عميقا في الإيقاع..
المنفي كما يراه درويش هو ذاك اللامنتمي بامتياز، إنه منتم إلى ذاكرته فقط، ذاكرته هي بلاده وهويته.. ومشمولات ذاكرته هي معبوداته..
يميّزُ درويش بين المنفى الإجباري الناتج عن الحروب والكوارث الطبيعية والاضطهاد السياسي والاحتلال والتطهير العرقي وبين المنفى الاختياري الذي هو نتيجة البحث عن شروط حياتية جديدة.. عن أفق جديد.. وفي هذا الإطار يتحدث عن المنفى اللغوي باعتباره بحثا عما سماه بالحضور الأكبر في ثقافات اللغات الأكثر انتشارا.. أو للانتقام من السيد بلغته السائدة..
بعد هذا التقديم العام يجلّي درويش بلاغة منفى شعبه ومنفاه:
«وفي حالتنا الفلسطينية، تعرضت أكثرية الشعب الفلسطيني إلى جريمة الاقتلاع والتهجير والنفي منذ ستين عاما. مازال الملايين من اللاجئين يعيشون في مخيمات المنافي والدياسبورا، محرومين من شروط الحياة الأولية ومن الحقوق المدنية، ومحرومين من حق العودة.وعندما تدمر مخيامتهم، وهذا ما يحدث في كل حرب صغيرة أو كبيرة، يبحثون عن مخيم مؤقت في انتظار العودة لا إلى الوطن.. بل إلى مخيم سابق أو لاحق.
ومن المفارقات المأسوية، أن الكثيرين من الفلسطينيين الذين يعيشون في بلادهم الأصلية، مازالوا يعيشون في مخيمات لاجئين، لأنهم صاروا لاجئين في بلادهم بعدما هدمت قراهم وصودرت أراضيهم، وأقيمت عليها مستوطنات إسرائيلية. إنهم مرشحون لأن يكونوا هنودا حمرا من طراز جديد. يطلون على حياتهم التي يحياها الآخرون، على ماضيهم الجالس أمامهم دون أن يتمكنوا من زيارته لذرف بعض الدموع أو لتبادل الغناء الحزين، هنا، يصبح المنفى في الوطن أقسى وأشد سادية.
الاحتلال منفى. يبدأ منفى الفلسطيني منذ الصباح الباكر: منذ أن يفتح النافذة حواجز عسكرية، جنود، ومستوطنات.
والحدود منفى. فلم تعرف أرض صغيرة أخرى مثل هذا العدد الهائل من الحدود بين الفرد ومحيطه، حدود ثابتة وحدود متنقلة بين خطوتين. حدود حمولة على شاحنات أو على سيارات جيب.حدود بين القرية والقرية. وأحيانا بين الشارع والشارع، وهي دائما حدود بين الإنسان وحقه في أن يحيا حياة عادية. حدود تجعل الحياة الطبيعية معجزة يومية. والجدار منفى. جدار لا يفصل الفلسطينيين عن الإسرائيليين.. بل يفصل الفلسطينيين عن الفلسطينيين وعن أرضهم. جدار لا يفصل بين التاريخ والخرافة.. بل يوحدهما بامتياز.
غياب الحرية منفى، وغياب السلام منفى. ليس المنفى دائما طريقا أو سفرا، إنه انسداد الأفق بالضباب الكثيف. فلا شيء يبشرنا بأن الأمل ليس داء لن نشفى منه. نحن نولد في منفى، ويولد فينا المنفى. ولا يعزينا أن يقال إن أرض البشر كلها منفى، لكي نضع منفانا في مقولة أدبية.
منذ طفولتي عشت تجربة المنفي في الوطن، وعشت تجربة المنفى الخارجي. وصرت لاجئا في بلادي وخارجها. وعشت تجربة السجن. السجن أيضا منفى. في المنفى الداخلي حاولت أن أحرر نفسي بالكلمات. وفي المنفى الخارجي حاولت أن أحقق عودتي بالكلمات. صارت الكلمات طريقا وجسرا، وربما مكان إقامة. وحين عدت مجازا، كان المنفى الخارجي يختلط مع المنفى الداخلي، لا لأنه صار جزءا من تكويني الشعري، بل لأنه كان كذلك واقعيا.
لم تكن المسافة بين المنفى الداخلي والخارجي مرئية تماما. في المنفى الخارجي أدركت كم أنا قريب من البعيد.. كما أن «هنا» هي «هناك»، وكم أن «هناك» هي «هنا». لم يعد أي شيء عاما من فرط ما يمس الشخصي، ولم أعرف أَيُّنا هو المهاجر: نحن أم الوطن، لأن الوطن فينا، بتفاصيل مشهده الطبيعي، تتطور صورته بمفهوم نقيضه المنفى. من هنا، سيفسر كل شيء بضده، وستحل القصيدة محل الواقع، ستحاول أن تلملم شظايا المكان، وستمنحني اللغة القدرة على إعادة تشكيل عالمي وعلى محاولة ترويض المنفى. وهكذا، كلما طال منفى الشاعر توطدت إقامته في اللغة، وصارت وطنه المجازي... صارت وسيلته وجوهره معا، وصارت بيته الذي يدافع عنه به.
الابتعاد عن الوطن، بوصفه منبع الإلهام وطفولة اللغة، قد يدمر الشاعر. فهذا الابتعاد هو امتحان عسير للقدرة على اختراع ألفة مع مكان جديد، واختراع صداقة مع حياة لسنا مؤهلين لها، والمشي على شوارع لا نعرفها، والتكيف مع مناخ مختلف، والسكنى في حي لا تربطنا فيها علاقة ببائع الخبز والصيدلية والمطعم ومغسلة الثياب. وباختصار، هو تدريب الذات على أن تولد من نفسها بلا مساعدة، وأن تستعد لمواجهة الموت وحدها. ولكن، إذا لم يدمرك المنفى ستصبح أقوى، لأنك استخدمت طاقاتك القصوى وحريتك الداخلية لا لتأتلف أو لتجد مساواة ما، بل لتصالح نفسك، ولتتفوق عليها وعلى الخسارة.وعندها، قد يسألك أحد ما: لولا المنفى، هل كنت سأستمع إليك؟ لن تعرف كيف تجيب. وقد تقول : لولا تلك الأرض التي ولدت عليها ومنها، هل كنت ما أنا عليه اليوم؟ هل كنت ستسألني؟
للمنفى أسماء كثيرة، ومصائر مدمّرة قد لا ينجو منها إلا بعض الأفراد الذين لا يشكلون القاعدة. أما أنا، فقد احتلني الوطن في المنفى. واحتلني المفنى في الوطن.. ولم يعودا واضحين في ضباب المعنى. لكني أعرف أني لن أكون فردا حرا إلا إذا تحررت بلادي. وعندما تتحرر بلادي، لن أخجل من تقديم بعض كلمات الشكر للمنفى».