jueves, noviembre 13, 2008

لاثاريو دي طورميس نموذج الأدب البيكاريسكي د. عيسى الدودي




ترجمة هذا النص السردي النفيس إلى اللغة العربية من طرف:ادريس الجبروني ومحمد المساري، وتقديم الدكتورجميل حمداوي، وبدعم من وزارة الثقافة الإسبانية، يعد إنجازا مهما في إطار التواصل الثقافي والحضاري بين الأدبين العربي والإسباني، وتقريبا للقارئ العربي من عمل فني يصنف ضمن روائع الأدب الإسباني، وفي الوقت نفسه يتقاطع -حسب كثيرين- مع بعض الأنواع الأدبية العربية في الشكل والمضمون. وبالرغم من قدمه الذي يعود إلى القرن السادس عشر الميلادي، فإنه ما زال يحتفظ ببريقه ولمعانه، ويستهوي الباحثين المهتمين بالدراسات المقارنة في مجال الأدب، يقول أحد الدارسين الإسبان عن هذه الرواية:»لاثاريو دي طورميس يمكن أن نقول عنها: إنها في قمة الوضوح في الجنس البيكاريسكي، ويمكن أن نقول كذلك: هي الأكثر لمعانا كالرواية الجديدة، أينما يحل بصرك يتراءى أمامك إبداع سردي بصيغة جديدة، كُتِب ليكون رفيعا».


د. عيسى الدودي


-المغرب-


حياة لاثاريو دي طورميس وحظوظه ومحنه) تمثل حجر الزاوية في الأدب الإسباني لأنها ظهرت إلى الوجود سنة 1554م، لمؤلف مجهول، في وقت كان يبحث فيه هذا الأدب عن الاستقلالية، ويتطلع إلى إثبات ذاته ووجوده، والتخلص من التبعية للأدب العربي الذي كرس وجوده في الأندلس لأكثر من ثمانية قرون. وأسست بذلك لميلاد جنس روائي جديد يسمى الرواية البيكاريسكية La novela Picaresca، إذ توالت بعد ذلك الأعمال الأدبية من هذا الصنف في إسبانيا وبقية الدول الأوربية وأمريكا اللاتينية، ك (Guzman de Alfarache) ل «Mateo Alema»، و (EL Buscon) ل «Francisco de Quevedo»، و(Picara Justina) ل «Francisco ?beda»، و (La hija de Celestina) ل « Alonso Jeronimo de salas Barbadilloo»، و (Vrai histoire comique de Francion) للكاتب الفرنسي « Charles Sorel»، و (mort d-amour) ل «Gauthier».


ومن ناحية التعريف فمن أقدم الكلمات التي لها علاقة بهذا الاسم «Picaresca»، كلمة pica اللاتينية التي تعني الرمح، ومنها جاء الفعل picar في الإسبانية الذي يعني: (وخز، لسع، لدغ، نقر، ثقب)، وغيرها من المعاني التي تدل على التصرف العنيف الذي يحدث الألم كما تفعل الأفاعي أو العقارب أو النحل..عندما تغرز الطرف الذي تخرجه -الذي يسمى بالإسبانية pico- فيمن ترغب إيذاءه. وليس غريبا أن تكون تصرفات البيكارو picaro ـ وهو بطل الرواية البيكاريسكيةـ ضمن هذه المعاني الدالة على الإيذاء وإلحاق الضرر، فهو صعلوك وشحاذ وغشاش ومخادع يجنح إلى المكر والحيلة والدهاء في سلوكاته وتصرفاته التي تؤذي الآخرين، ومنها كذلك كلمة picardia التي تعني من بين ما تعنيه الشر والكلام الفاحش وقلة الحياء. بيد أن اسم البيكارو مر بعدة مراحل، واكتسب عدة معان، ففي عهد الرومان كان يطلق على السجناء الذين يباعون كالعبيد، ثم أصبح يعني الشحاذ أو المتسول mendigo، أو السارق ladron، أو لابس الأسمال ورث الثياب desharrapado، كما اقترن بكلمة miserable أي البائس. وبالرغم من كثرة هذه الألقاب التي تصنفه من الأشرار والسيئين، فإن البيكارو في الحقيقة شخصية طيبة تمردت على الواقع، فنهجت الأساليب غير المشروعة لاسترجاع ما اعتبره حقا مشروعا، يقول عنه أحدهم: «هو شخصية طيبة في قرارة نفسه، له قلب طيب، دون تجربة، لكنه في الواقع تحيط به التصرفات غير اللائقة من طرف الآخرين، مما جعله كثير الشك والريبة من الغشاشين والمخادعين»، وهذا التصرف نفسه نجده في أدب الشطار والعيارين عند العرب، إذ حدد الدكتور محمد رجب النجار الملامح العامة للشطار العرب في ثلاث:


- الانتماء إلى دائرة اجتماعية معينة منبوذة اجتماعيا من الفئات الاجتماعية العليا، فهم جماعات تعيش على هامش المجتمع.


- البطولة خارج القانون، فهم في حالة صراع مع الآخر الذي لفظهم، فتمردوا على المجتمع وحاولوا الثورة عليه، لينالوا بأسلوب غير شرعي ما يعتقدون أنه حق شرعي لهم، وبذلك فهم حسب الحكام والسلاطين وولاة الأمور جماعات مشاغبة خارجة على القانون والشرعية.


- تحظى هذه الفئة بإعجاب العامة الذين يتعاطفون معهم ويشيدون بأفعالهم.


ومن جهة التأثير والتأثر، فقد حاول بعض الدارسين إثبات تأثر الرواية البيكاريسكية بالأدب العربي خاصة ما يتعلق بفن المقامة الذي ظهر بالمشرق قبل أن ينتقل إلى الأندلس، وأدب الشطار والعيارين الذي ازدهر في حواضر بغداد ودمشق والقاهرة، وشعر الصعاليك المجسد لرؤية الفقراء في توزيع الثروات، والنصوص السردية التي بطلها جحا العربي التي تناقلتها الألسنة من جيل إلى جيل منذ مئات السنين، كما هو الشأن بالنسبة للدكتور علي الراعي عندما يقارن بين المقامة والرواية البيكاريسكية بقوله: «بين محتال المقامات، والبيكارو..نقط التقاء غير قليلة. كلاهما فقير، مضيق عليه في الرزق، وكلاهما جواب آفاق، يستخدم ذكاءه البين في طلب الرزق، لا يتردد في هذا السبيل أن يغش ويخدع ويسأل الناس، ويسرقهم أحيانا»، في حين هناك من ينكر هذا التأثر كالدكتور إسماعيل العثماني عندما يقول: «علاقة أدب الشطار الإسباني بالأدب العربي موضوع عالجه العديد من النقاد والدارسين. والجدير بالذكر في هذا السياق أن أغلب هؤلاء يقولون بتأثير المقامة في نشأة الأدب الشطاري الإسباني...حقا، إن هناك أوجه شبه بين المقامة العربية والقصص الشطارية الإسبانية، خصوصا فيما يتعلق بالبطل والفضاء وثيمات الجوع والطريق والاحتيال، ولكن ليس ثمة أدلة واضحة وقاطعة تدل على تأثر الأدب الإسباني بالأدب العربي في هذا الحقل».


وما دام المغرب كان على الدوام قريبا من إسبانيا تربطه بها علاقات التأثير والتأثر، فليس بدعا أن يتأثر الروائيون المغاربة بالرواية البيكاريسكية، إذ إن عددا من الروائيين المغاربة نسجوا رواياتهم على منوالها، واستفادوا من تقنياتها وقالبها الفني، فجاءت ذات طابع بيكاريسكي، كمحمد شكري في «الخبز الحافي» و «الشطار»، ومحمد الهرادي في«أحلام بقرة»، والعربي باطما في كل من «الرحيل» و «الألم»، و محمد زفزاف في «المرأة والوردة»، وميمون الحسني في «جذور الضباب»، وإسماعيل العثماني في رواية «غورغو». يقول الدكتور جميل حمداوي عن رواية «الشطار» لمحمد شكري: »ويمكن استخلاص مجموعة من التيمات التي تجعل من هذه الرواية شطارية ما دامت ترصد فئة المهمشين الذين يعيشون على هامش المجتمع.


وهذه التيمات هي: الجنس، والدعارة، والمخدرات، والصعلكة، والمغامرات العبثية والمجونية والفقر، والاحتيال، وتملك المعرفة الأدبية والفنية، ومصاحبة الشطار، والتمرد على الأخلاق والقوانين والأعراف الاجتماعية.


وإذا عدنا إلى هذه الرواية، وبالضبط إلى متنها الحكائي، فهي : «في الحقيقة سيرة ذاتية لدلال قشتالي»، اسمه «لاثاريو دي تورميس»، ولد في بلدة «طخاريس»، كان أبوه يعمل طحانا، واتهم باختلاس وسرقة زبائن الطاحونة، فتم القبض عليه ونفي من بلدته بسبب هذه الواقعة، وفي ذلك الوقت كانوا يجهزون جيشا لمحاربة المسلمين فانضم إليه، وقضى نحبه في الحرب. أما الأم/الأرملة فقد لجأت إلى العمل لتوفير قوت يومها، وشاءت الأقدار أن تتعرف على رجل أسمر اسمه زيد بدأ يتردد على بيتها، وانتهى الأمر بها أن أعطت ل»لاثاريو» أخا أسود لكن التحريات ستكشف أن العبد كان يسرق وينفق بذلك على أمه وأخيه الصغير، فحكمت عليه العدالة بالجلد والكي، أما الأم فحكموا عليها بمئة جلدة.


وفي هذه الفترة شعر «لاثاريو» أنه طفل يافع قادر عن الاستغناء عن الأم، فبدأ رحلة المغامرة مع رجل أعمى تولى خدمته وقيادته، يقول عن هذا الأعمى: «ولنعد إلى صاحبنا الأعمى وشؤونه أقول لك يا سيدي، إنه منذ خلق الله العالم، فإنه لم يخلق مثله مكرا ودهاء، فقد كان يتصنع السمت، ويظهر التقوى والتواضع، ويحفظ أدعية لكل المناسبات خاصة ما يتعلق بالنساء كالعواقر والنفساء والحبليات وغير الموفقات في الزواج، وفي الطب كان يدعي معرفة ضعف ما يعرفه «جالينوس»، وكان يكسب من كل هذا أموالا ومكاسب كثيرة. لكنه في الوقت نفسه كان بخيلا شحيحا مقترا قتل «لاثاريو» جوعا، ومارس في حقه شتى صنوف التعذيب من ضرب وشتم، وألوان من السخرية والاستهزاء..لذلك قرر الانتقام منه بحيل شيطانية؛ من ذلك أن الأموال التي كان يمدها الناس للأعمى لا يصل منها إليه إلا النصف والباقي يأخذه «لاثاريو» مستغلا عماه. كما كان يقوده في أسوأ الطرق عمدا ورغبة في إيذائه، فوق الأحجار وبين الأوحال. وانتهت علاقته بهذا الأعمى بهذه المكيدة التي ستنهي حياته، إذ قاده حيث يوجد عمود من الحجر منصوب فيه نتوءات حادة خلفه جدول ماء، ولما صار في مواجهة هذا العمود أمره بالقفز فاصطدم رأسه بالعمود فتشقق بقوة الارتطام، وسقط صريعا على الأرض، بينما ركض «لاثاريو» هاربا وغادر المدينة.


بعد ذلك سيحل بقرية تدعى «مكيدا»، وهنا سيقوده حظه العاثر للالتقاء بقسيس عرض عليه خدمته فرضي، إلا أن هذا الراهب كان أشد بخلا وقساوة من سابقه الأعمى، وكاد أن يسوقه إلى حافة القبر، يقول «لاثاريو» محاولا المقارنة بينهما: »لقد هربت من الرعد لأسقط في البرق، لأن سيدي الأعمى وإن كان هو البخل بعينه كما رويت من قبل، فإنه بالنسبة إلى هذا القسيس يعد الإسكندر الأكبر لا أقول أكثر من هذا، اللهم إلا أن كل شح العالم كان حبيسا في هذا الرجل ولست أدري أكان ذلك منه عن طبع، أم اكتسبه مع ثياب الكهنوت ومن الفرص التي كانت تتاح لــ «لاثاريو» للأكل حتى الامتلاء، حضور الجنائز برفقة القسيس للمشاركة في الصلوات، وكم كان يتمنى ويطلب الله أن يقبض كل يوم روح إنسان، بل حتى المرضى كان يتمنى أن يزيلهم الله من الدنيا ليشبع في أيام مراسم الدفن، وكان يشيعهم بالأفراح والتبريكات، لأنه كان يظن أن الله يقتلهم ليهب له الحياة، وعندما لا يموت أحد فإنه يعود إلى الجوع من جديد بعد وفرة الطعام. وكعادته مع الذين يظلمونه، عزم مرة أخرى على الانتقام من القسيس، إذ كان يقرض الخبز الذي وضعه سيده في الصندوق ويوهمه أن الفئران هي التي فعلت ذلك، إلا أن هذه الحيلة لم تنجح هذه المرة، إذ كانت مفاجأته عظيمة عندما اكتشف أن «لاثريو» يخبئ مفتاح الصندوق في فمه أثناء النوم طوال هذه الفترة الطويلة، فكانت الضربة التي تلقاها منه على فمه كافية أن تدخله في غيبوبة مدة ثلاثة أيام، بعدها أمسكه بيده وألقى به إلى الشارع.


كانت وجهته بعد ذلك طليطلة حيث التقى رجلا ـ(سائساً)ـ تظهر عليه آثار النعمة والثراء كالنبلاء، ويشارك في القداس الديني بخشوع شديد، فتوسم فيه الخير والصلاح. إلا أنه وجد نفسه يعيش مع شخص لا يملك شيئا في هذه الدنيا إلا المظهر الذي كان يعتني به لمغازلة النساء والفتيات، ويمشي في الشوارع موزونا يستنشق الهواء، بينما «لاثاريو» أصبح مرغما على تعاطي مهنة التسول التي تعلمها من سيده الأول(الأعمى)، وإعالة صاحبه البائس الذي يتصنع التكبر والعجرفة، واستمر أمرهما على هذا الحال إلى أن افترقا بسبب الديْن الذي اقترضه سيده واضطره لمغادرة المدينة والتواري عن الأنظار.


أما الشخصية الرابعة التي التقى بها لاثاريو فهو راهب يظهر التدين والاستقامة وفي الوقت نفسه له تجارب ومغامرات جنسية عديدة مع النساء. وفي وقت لاحق سيقوم بخدمة مُرَوِّج صكوك الغفران الذي يعتمد الحيل والمكائد لابتزاز الناس باسم الدين، وكذلك خدمة راعي هيكل وشرطي. وفي الأخير سيتحسن حاله ويتزوج إحدى خادمات رئيس القساوسة التي كانت تحوم الشكوك حولها بسبب ترددها على سيدها بعد زواجها بلاثريو، علاوة على ذلك فقد أكد له من يعرفها حق المعرفة أنها ولدت ثلاث مرات قبل أن يقترن بها.