دستور الملكية غير البرلمانية
الخميس، 23 يونيو 2011
محمد الساسي
تم كشف النقاب عن مشروع الدستور الجديد، وانطلقت الحملة الاستفتائية لأول مرة في ظل وجود فاعل جديد من الصعب تجاهل رأيه حول المشروع. هذا الفاعل هو حركة 20 فبراير التي اختارت الشارع حلبة للنضال من أجل التغيير وفي طليعته التغيير الدستوري. لعب الفاعل المذكور دورا أساسيا في دفع النظام إلى اتخاذ قرار المراجعة الدستورية، ولكن هذه الأخيرة لم تكن في مستوى تطلعات الحركة
لاتخاذ موقف من المشروع المطروح، لوحظ أن هناك مقاربتين تحكمان الأمر:
- مقاربة الذين يحددون موقفهم على ضوء المقارنة بين المشروع الجديد وبين دستور 1996، ولم يجدوا أية صعوبة في التوصل إلى أن المشروع الجديد "أكثر تقدما" من الدستور الجاري به العمل حتى الآن. وبما أن أصحاب هذه المقاربة لا يعتبرون أن قيام نظام حقيقي للملكية البرلمانية الآن في المغرب يمثل الاختيار الأنسب، فإنهم يكتفون بتأييد أي نص دستوري من شأنه – في نظرهم- أن يفتح الطريق نحو ملكية برلمانية غدا أو أي نص يحقق تطورا دستوريا أو مؤسسيا مهما كانت محدوديته، أو أي نص يأتي بمبادرة من فوق
- مقاربة الذين يحددون موقفهم على ضوء المقارنة بين المشروع الجديد وبين المتطلبات المتعارف عليها كونيا للملكية البرلمانية، انطلاقا من أن "رسالة" حركة 20 فبراير والانتفاضات التي اتقدت في المنطقة العربية، والإيقاع الذي اتخذته "العولمة السياسية" تؤكد أننا دخلنا مرحلة جديدة لا مكان فيها للتردد أو الجمع بين أساليب عتيقة وأخرى حديثة في التدبير، وأن رياح الديمقراطية تهب بشدة وتفرض علينا التخلي عن بقايا المحافظة والجمود والانخراط في زمن الانتقال
وبعبارة أخرى، على بلدنا أن يحل بصفة حاسمة وكلية مشكلة الديمقراطية، وأن يتخذ الإجراءات الضرورية للتغيير الديمقراطي الشامل والبنيوي، وأن يُحِلَّ نظام الملكية البرلمانية محل نظام الملكية شبه المطلقة، وأن يوفر لنفسه دستورا يضع السلطة بيد المنتخبين ويتيح لهم فرصة تطبيق برنامجهم في مختلف أبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والخارجية والداخلية والأمنية والدفاعية، وأن تكون السلطة الأساسية الممنوحة للملك هي بالضبط تيسير ممارسة هؤلاء المنتخبين لسلطتهم، مع احتلال مراكز شرفية ورمزية وتدخل لحسم بعض الأزمات المؤسسية في اتجاه يعيد المبادرة للناخبين
على ضوء ما سبق، يمكن الخلوص إلى أن المشروع المعروض على الاستفتاء لا يطابق مستلزمات وأسس الملكية البرلمانية، وذلك على الأقل من خلال العناصر التالية:
أولا– المشروع يكرس مركز الملك كمتحكم في السلطة التنفيذية ومحدد لمسارات عملها واشتغالها ومضمون القرارات التي تفيض عنها، وذلك من خلال رئاسة الملك لمجلس الوزراء. فهذا الأخير هو الذي يتداول التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة والتوجهات العامة لمشروع قانون المالية. وهذا يعني أن مجلس الحكومة، حتى وإن تمت دسترته كمؤسسة وتم تخويله حق البت في مشاريع القوانين العادية والمراسيم التنظيمية، فإن ذلك يتم في إطار الخضوع للتوجهات "الاستراتيجية" التي رسمها مجلس الوزراء، فمهمة مجلس الحكومة هي تحويل تلك التوجهات إلى قرارات وتدابير والانضباط لسقف ما تقرر في مجلس الوزراء. والملك لا يمارس مجرد رئاسة شرفية أو بروتوكولية لهذا المجلس، بل يمارس رئاسة فعلية مع كل مترتباتها
صحيح أن المشروع يتيح للملك إمكان تفويض تلك الرئاسة إلى رئيس الحكومة، بجدول أعمال محدد، ولكن ليس هناك ما يُلزم الملك بمنح هذا التفويض. لا يمكن للحكومة إذن أن تحدد وحدها، وبمعزل عن رأي الملك وتدخله، التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة والتوجهات العامة لمشروع قانون المالية، بل كل ما تستطيع صنعه لوحدها هو ترجمة تلك التوجهات في عملها وما يصدر عنها والتقيد التام بفحواها. إن تركيز قوة مجلس الوزراء هو عمليا تركيز لسلطة الملك. وفي المحصلة النهائية، سيظل مجلس الحكومة تابعا لمجلس الوزراء وظِلاًّ لاختياراته وفرعا من أصله
وهذا كله يفيد بأن التوجهات الاستراتيجية لسياسة الدولة لا تُناقش على صعيد مجلس الحكومة، وأنها لا يُفترض أن تتقيد بالضرورة بالبرنامج المتعاقد عليه مع الناخبين. إن توفر الحكومة على برنامج، ووضع الناخبين ثقتهم في هذا البرنامج لا يُكسبه قوة إلزامية تلقائية، إذ ما لم يوافق الملك على التوجهات الاستراتيجية لذلك البرنامج من خلال مجلس الوزراء فلن يكون له أي مفعول
بل إن خطاب الملك الذي أعلن فيه عن تاريخ الاستفتاء تضَمَّن إشارة إلى أن الملك ليس فقط هو "الحكم الأسمى بين المؤسسات"، كما جاء في الدستور، بل إنه أيضا "الموجه الأمين". وهذه الصفة الأخيرة لم ترد في نص مشروع الدستور، ولكن الإلحاح عليها في الخطاب يَدُلُّنا على الطريقة التي يقرأ بها الملك مشروع الدستور، وكيف يرى نفسه فيه، والصلاحيات التي يقدر أنها تعود إليه عبر استنطاق الفصول والمقتضيات الدستورية واستخلاص معانيها ودلالاتها
ثانيا– المشروع يكرس وضعا للملك يتسم بتراكم الرئاسات. فالملك هو رئيس مجلس الوزراء، وهو الحقل الرئيسي لممارسة الملك دور "الموجه الأمين" بامتياز. والملك هو رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية. والملك هو رئيس المجلس العلمي الأعلى. والملك هو رئيس المجلس الأعلى للأمن (وله أن يفوض الرئاسة لرئيس الحكومة). والملك هو الذي يعين 6 من أصل 12 من أعضاء المحكمة الدستورية ويعين رئيسها. والملك هو الذي يعين كل الشخصيات غير المنتمية لسلك القضاء والتي تشارك في تركيبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية وعددها خمس. والملك هو الذي يعين نصف أعضاء المجلس الأعلى للإعلام السمعي البصري ورئيس المجلس
وبما أن الملك دستوريا هو "الحكم الأسمى" بين المؤسسات، فكيف سيتأتى له ممارسة هذا التحكيم، وهو في ذات الوقت رئيس تلك المؤسسات، والموجه لعملها والمتابع لنشاطها، فهو يوجد "داخل" هذه المؤسسات وليس خارجها حتى يكون هذا الدور ألتحكيمي مفهوما ومسوغا. إذ هل يُعقل أن يمارس الإنسان تحكيما بين مؤسسات يرأسها في الأصل وبين تلك المؤسسات ومؤسسات أخرى
ثالثا– المشروع يجعل الوزراء كأفراد تابعين للملك بعد تعيينهم، إذ يحق له عزل أحدهم أو مجموعة منهم، بمجرد استشارة رئيس الحكومة (ودون التزام بنتائج تلك الاستشارة)، ودون أن يقدم رئس الحكومة أي اقتراح في هذا الشأن. هذا يعني أن الوزراء مسؤولون أمام الملك وأن له تقييم عملهم بصرف النظر عن رأي رئيس الحكومة فيهم، فحتى لو كان هذا الأخير راضيا عن عملهم، فإن ذلك لا يشكل ضمانة لاستمرار تحملهم للمسؤولية
إن استمرار المقتضى الذي يتيح للملك إمكان إعفاء الوزير في حكومة قائمة بدون أن يرد الاقتراح من رئيس الحكومة، هو استمرار لحالة مغربية اتسمت بضعف مركز الوزير الأول الذي لم يكن يحتفظ بأية "سلطة معنوية" على الوزراء في حكومته، والذين كانوا يشعرون – بعد تعيينهم – بأن مصير وضعهم الوزاري يصبح بين يدي الملك، ومن ثمة، فإنهم لا يحفلون برأي الوزير الأول فيهم وييممون شطر التعليمات التي تأتيهم من المصدر الذي يتحكم في مصيرهم
رابعا– المشروع يضيف صلاحيات جديدة للملك في سياق سياسي اتسم بظهور فكرة البحث عن توازن بين السلطات والمؤسسات والحد من هيمنة سلطة أو مؤسسة بعينها. لقد أصبح الملك رئيسا للمجلس الأعلى للأمن، ورئيسا دستوريا للمجلس العلمي الأعلى مثلا. وأُضيف أيضا إلى الملك صلاحية التقدم أمام البرلمان بطلب مراجعة بعض بنود الدستور واعتماد هذه المراجعة دون حاجة إلى استفتاء. هذه الصلاحية لا تُتاح لغير الملك من جهة، ولا تفرض على الملك الحصول المسبق على مصادقة أي من المؤسسات الأخرى من جهة ثانية. يكفي أن يستشير رئيس المحكمة الدستورية، ونتيجة الاستشارة غير ملزمة، وليس مطلوبا منه أن يعرض الفكرة على مجلس الوزراء أو حتى أن يُلقيَ خطابا إلى الأمة لإشعارها. فالمراجعة في هذه الحالة تجري بين جدران البرلمان وتتقرر بأغلبية ثلثي الأعضاء المكونين للمجلسين المجتمعين في جلسة واحدة.
وما دام للملك حق عرض مشروع المراجعة على الاستفتاء مباشرة، وبدون حتى إطلاع رئيس الحكومة أو رئيسي المجلسين أو مجلس الوزراء، فلماذا أُضيف إلى الصلاحيات الملكية حق عرض مراجعة بعض مقتضيات الدستور على البرلمان لاعتمادها دون استفتاء. إن هذا المقتضى الجديد يسمح لنا باستنتاج ما يلي:
- إن المراجعة الدستورية الحالية لا تسير في اتجاه وحيد هو تقليص صلاحيات الملك، كما يريد أن يوحي بذلك البعض، بل إنها تتضمن فضلا عن تقليص بعض الصلاحيات (مثل صلاحية تعيين بعض المسؤولين السامين)، إضافة صلاحيات جديدة إلى الملك.
- إن تمكين الملك من حق اعتماد مراجعة دستورية لبعض المقتضيات عبر البرلمان وبدون حاجة إلى استفتاء، قد يُقَذَّمُ على أن الغاية منه هي تبسيط مسطرة المراجعة عندما يتعلق الأمر بتعديلات محدودة ليست ذات تأثير كبير على السير المؤسسي أو لا تحتمل الانتظار، ولا يُعقل أن تتم من أجلها تعبئة اللوجستيك المطلوب لاستفتاء شعبي. لكن لماذا في هذه الحالة لم تُمنح هذه الصلاحية أيضا لرئيس الحكومة، مادام الانطباع الذي أُريد إشاعته هو أن مشروع الدستور الجديد يسعى إلى تقوية دور رئيس الحكومة
- إن اعتماد هذه المسطرة الجديدة في المراجعة الدستورية لأول مرة يُخشى دائما أن يؤدي إلى تضييق مجال النقاش العمومي في مجال حيوي كالتعديل الدستوري
- إن المسطرة الجديدة قد تمثل أيضا سلاحا احتياطيا لتقويم بعض الاختلالات الموجودة في الدستور، ولكنها أيضا قد تمثل طريقا للتحرر من عبء بعض المقتضيات التي قُدمت كمكتسبات والتي يخشى البعض في العمل أن يخل تطبيقها وإصرار المستفيدين منها على تفعيلها بـ"توازن" ما تقوم عليه قواعد الحكم التقليدية في المغرب
خامسا– المشروع يكرس سيطرة أجهزة وزارة الداخلية على العملية الانتخابية، وقدرتها على ضمان نوع من "الضبط الانتخابي"، المتجلي أساسا في عملية "إعادة تقويم" غير مباشرة لمسارات النتائج من خلال أوجه متعددة: كتحييد المستقلين، والتحكم في "سيولة" البطاقات الانتخابية، والتوجيه الإعلامي، وحجب النتائج المفصلة أحيانا، ووضع لوائح "المرفوضين" بدون سند قضائي، واعتماد وسائل عمل خاصة في البادية، والتضييق على أدوات المراقبة، واحتكار المعلومة وضبط رواجها، والانفراد بوضع المواعيد واليوميات، واستثمار نتائج الاستطلاعات المسبقة وإعلانها أو عدم إعلانها حسب الأهداف المتوخاة... إلخ. صحيح أن تحديد مبادئ تقطيع الدوائر الانتخابية أصبح يدخل في مجال التشريع، وأن عددا من المقتضيات المرتبطة بأخلاقيات العمليات الانتخابية تم تضمينها في النص الجديد، ولكن رفض التنصيص على مطلب العديد من القوى الديمقراطية القاضي بجعل الإشراف على الانتخابات موكولا إلى هيأة دستورية مستقلة، يحرم المواطنين من ضمانة أساسية لحرمة الاقتراع وحماية الديمقراطية؛ خاصة أن اعتماد مثل هذه الهيئة في الإشراف على مجريات الانتخابات أصبح اتجاها عالميا في طور التكريس، والخطاب الرسمي يحاول أن يقدم المشروع الجديد كثمرة توجه نحو تحديث الترسانة الدستورية..