في البستان..!
حمل إلي الفاضل المختار التمسماني بشارة مناولته إياي نسخة من تلك الترجمة الفريدة التي أنجزها المرحوم الدكتور محمد بوطالب لنص الصلاة المشيشية إلى اللغة الإنجليزية.. فأجرى في نفسي شعورا غامرا لاستعادة تلك الترجمة.. بل استعادة تلك الأجواء الروحانية التي عشناها في شفشاون المنورة ربيع 1999 بمناسبة انعقاد ندوة «أبي الحسن الشاذلي وتراثه» كانت قد أعدتها مجموعة بحث منتسبة وقتئذ إلى شعبة اللغة العربية بآداب تطوان.
في شفشاون بستاني الصوفي قدم كل متحدث (ة) نبتَةَ إشارة.. جوْهَر كلام.. أو لُبّ ثمار قراءاته ومراجعاته ومطالعاته التاريخية والثقافية والفكرية والإبداعية والبحثية المقارنة.. والترْجَميّة.
كنا في برنامج تلك الندوة أسماكا في بُحْران الشاذلية.. وكان السِّي عبد الكريم الطبال أول سابح عارف رحل بنا نحو عوالم الشاذلية في حضرة ابن مشيش.. قدم نهج صحبة الشاذلي للمولى عبد السلام بن مشيش، وملازماته وتدرج مقاماته حيرةً وسياحةً وعرُوجًا ورؤيا.. من السنّي إلى الأسنى.. إلى الأسْمى.. بمعارف تلقى في القلوب والبصائر.. أواني الحكمة العتيقة الصادقة الصافية.
دعتني بشارة السّي المختار إلى استعادة بعض من ذلك الظمأ العرفاني اللاّيُرْوى!
في جلسة رابعة أدارها الصديق عبد الله المرابط الترغي كان مقررا أن يتناول فيها الحديث المرحومان محمد بوطالب وعبد العزيز خلوق التمسماني وسعاد الحكيم وميلودة الحسناوي وكاتب هذه اللمحة..!
في محاولة مني الوقوف على أبي الحسن الشاذلي في آثار الدراسين الإسبان نَمذجْتُ أسين بلاثيوس اعتبارا لكمًّه الهائِل من البحوث التاريخية والفلسفية والدينية والأخلاقية. حتى إن مجموع ما أنتجه بين سنوات 1898 و1943 يربو عن ستة وأربعين ومائتي عمل.. وهو بالتالي من أكبر رؤوس الاستشراق الإسباني.. وتوقفت على ماقام به بين سنوات 1944 و1951 في موضوع محدد هو التصوف المقارِن.. حيث تركز اهتمامه في تقويم امتداد الفكر الشاذلي في مستوياته المشرقية والأندلسية الإسلامية والنصرانية..
كان منطلق البحث عند بلاثيوس واقعة تلك المفاجأة الحية التي أحدثها داخل الأندلس بروز متعبدين.. نعتوا بالإشراقيين المنقطعين المنعزلين أو الأرثودوكس المهرطقين..!
قضى بلاثيوس ثمان سنوات في إعداد دراسته المستفيضة والمقارنة بين الشاذليين وزمرة الإشراقيين، مراجعا مصادر إسلامية في التصوف من لطائف.. وتنوير.. ومفتاح.. ومفاخر.. وشروح.. وطبقات.. وحيوات.. وأقوات.. ومخطوطات غميسة وكان تعامله بارزا في ثلاث مستويات..
. الترجمة مع ما تحمله هذه المغامرة من ترجمة نصوص منسوجة مدلولاتها في أثواب لغة عليا..
. المقابلة بما تعنيه من مقابلة أشباه بنظائر في متون إسلامية ومسيحية..
. الخلاصات بما هي توكيد للأهداف المرسومة والغايات المسطرة في الخطاب الاستشراقي الإسباني:
ــ بناء الذات النصرانية
ــ الدفاع عن هوية الغرب
ــ رد الاعتبار للفكر الإسباني
ــ اعتبار كل ذلك جزءا من التراث الأندلسي.
لم يخرج بلاثيوس عن هواجس القائلين بأن ما أنتجه المتصوفة المسلمون يعود إلى أصول التصوف المسيحي.. وتحميل المسؤولية فيما عرفه التصوف المسيحي من مظاهر هرطقية وانحرافات إلى الفكر الصوفي الإسلامي..
يجتهد بلاثيوس لتوضيح بعض الجذوع المشتركة بين التصوف الشاذلي والتصوف المسيحي من حيث النظر إلى الإنسان بذاته وليس بصفته المتقوقعة في ديانة ما. ومن هذه الفكرة العامة يبسط بلاثيوس مفاهيم الصلاة، والإلهام بمتعلقاته الغيبية والذهولية والشطحية، والتلويح بمقارنة بين الشاذلي وسانْتَا طريسا باعتبارهما ممثلين لمدرسة واحدة هي مدرسةالروح مرآة وينبوعا..
وما يؤكد الفهم العميق لبلاثيوس لمنظومة التصوف إبحاره في تجلية مقام الشكر وموضوعات القبول والنية والحب الإلاهي وتوقفه مفسرا معلقا على ما صدر عن أبي الحسن الشاذلي أخذا عن شيخه ابن مشيش في هذا الباب وفي موضوعة التأمل الذي يعتبره بلاثيوس سعادة وطريقا ومناجاة ورؤية لله في الأشياء.. ورؤية للأشياء في الله..
كانت مشاركتي في ندوة شفشاون رحلة روحية إلى فضاء رمزي أنتمي إليه بكليتي.. مكنتني من تجديد الاستمداد من ينابيع صوفية، وأتاحت لي التعرف إلى بعض الأجلاء من أمثال المفكر المغربي الدكتور طه عبد الرحمان.. وهو من ذوي المواهب الثابتة والتكوين الروحي الخاص..
في رحاب الزاوية الشقورية أقيمت حلقة ذكر خرجت فيها أرواحنا من تراكيبها إلى روحانية سربت لذة إلى أوانينا.. أدرك معناها من وقع في ذلك المشهد..
شكرا سيدي المختار فأنت باعث هذا الكلام ببشارتك.. أجدد لك طلبي بطريقة الإيماء بالرأس وإشارة اليد:
«واحد المشيشية..»!