الشأن الإسباني في”الشمال“
مزوار الإدريسي
توشك”الشمال“ أن تطفئ شمعة عَقدها الأوَّل، وهي فرصة لتقييم الحصيلة، والتفكير في الآفاق؛ بعيدا عن كلِّ تبجُّح. ويكون المدخل الموضوعي، حسب تصوري، هو التأمُّل في مدى التزامها بالخط الذي ارتسمته لذاتها؛ المتمثِّل في تقيُّدها بما أعلنت عنه يوم ميلادها من ارْتِباط بالمحلي والجهوي أساسا، بمنأى عن كل شرنقة أو تعصُّب إقليمي.
ومما لا شكَّ فيه، أنَّ القارئ الدؤوب لهذا المنبر الإعلامي الشَّمالي، مثلما هو شأني، سَتَعِنُّ له إمكانية التعليق على قضايا عديدة، لأنَّ القراءة ليست بالضرورة فعلا سلبيا استهلاكيا، بل إنها في أصلها تفاعل ينتهي إلى تجليات مختلفة، منها الإفادة، والإضافة، واتخاذ موقف، إلخ... وبذلك يتم تكوين رأي عامّ معيَّن، وهو المطمح الرئيس لكل ممارسة صحافية.
وجليٌّ أن القضايا التي تتناولها ”الشمال“ متنوعة تنوُّع الوقائع، والمشاكل، والمنجزات، والطموحات... لذلك أفضِّل التركيز على قضية تستأثر باهتمامي، وأرى أنها لا تخلو من أهمية؛ إنها حضور الشأن الإسباني في تجلِّياته المختلفة على صفحات هذه الجريدة الأسبوعية، وهو حضور تستدعيه المصالح المشتركة بين الضفتين، ويقتضيه منطق الجغرافيا والتاريخ.
ويلزم التنويه أن وعيَ ”الشمال“ بهذا الدور تجلَّى في تخصيصها لصفحات نصف شهرية مكتوبة باللغة الإسبانية، تعتني بالمُتقاطع بين الجاريْن على الأصعدة جميعها، وتستهدف القُرَّاء الإسبان من جهة، والهيسبانيين المغاربة من جهة ثانية؛ في رسالة ثقافية وسياسية واضحة، تَلفت النَّظر إلى واقع اجتماعي يميز الشمال تمَّ القفز عليه، دون تبصُّر بعد الاستقلال، وهي صفحات على أهمِّيتها لم يُكتبْ لها الاستمرار بالوتيرة التي رُسِمتْ لها يومَ الإعلان عن هذه التجربة.
ويمكن رصد الشأن الإسباني في”الشمال“ ثقافيًّا؛ من خلال الترويج مجانا لأنشطة معهد ثربانتيس، التي تكاد لا يخلو منها كلُّ عدد، في تحفيز صريح على الإقبال عليها، خصوصا على عهد المدير الأسبق للمعهد بطنجة؛ أَرْطُورُو لُورِينْثُو صديق المغاربة بامتياز... وحضور الفكر والإبداع الإسبانييْن، بين الفينة والأخرى، في أعمدة المتألق عبد اللطيف شهبون، الذي لا تختلف أعمدته شكلا ومحتوى عن أشهر المنابر الإعلامية الإسبانية. وتكفي الإشارة إلى الدفاع المستميت للجريدة عن معلمة مسرح ثربانتيس، في إصرار كيخوطيٍّ على إصلاح ما أفسده الدهر؛ حفاظا على الذاكرة، وصَوْنا للحاضر، وتأمينا للمستقبل. لقد كانت حملة واعية ومنظَّمة، أعطتْ أكلها، بدليل أن المسرح الأسطوريّ سينبعث من رماده، بعد أنْ ضغطت الجريدةُ إعلاميا على الداخل والخارج، فكان أنْ أوصلتْ رسالتها إلى الإسبان بالأساس، الذين سيتكفلون بأمر ترميمه.
سياسيا، لا يمكن إنكار هذا التتبع الدقيق لما يمتُّ إلى المغرب بصلة، ويكفي استحضار تلك الملفات الدقيقة حول الهجرة السريَّة، والصيد البحري، ووضع الإسبان نزلاء السجون المغربية، وعبور المهاجرين، وقضايا العمال المغاربة بإسبانيا، ومشاكل الثغريْن سبتة ومليلية، والاستثمار الإسباني في المغرب، إلخ... قضايا لأهميَّتها جعلتْ المصالح الإسبانية بالمغرب تتبَّع هذه الجريدة بحرص شديد، وتوليها المكانة التي تستحقُّها. لقد اتخذت معالجةُ الملفات المذكورة طرافة وسمةً مميزَّتيْن، خصوصا تلك التي كان يُهيِّئ مادَّتها الباحث أحمد إحدوثن، والتي كانت دروسا إعلامية ما أحوجَ القراء إليها الآن.
تاريخيا، لا يُماري إلا جاحد في أنَّ”الشمال“ نفضتْ الغبار عن كثير من الحقائق التاريخية، التي كان الغموض يشوبها، ويكفي في هذا الصدد التذكير بالمقالات اللافتة لعميد الهيسبانيين المغاربة بنعزور حكيم، الذي خاض في أمور تخص الحركة الوطنية على عهد الحماية في الشمال، وقضية جزيرة ليلى”البقدنوس“، والأسر الموريسكية، وضرورة اعتذار ملك إسبانيا للموريسكيين شأن اليهود المطرودين من قِبَل محاكم التفتيش، إلخ... مثلما خاض باحثون آخرون مثل الراحل عبد العزيز التمسماني خلوق، أو الباحث أسامة الزكاري، أو غيرهما في أمور تمتُّ بصلة إلى كتابات إسبانية، أو مشاكل تاريخية، مثل قضايا اللفيف الأجنبي، والحرب الأهلية الإسبانية، وغيرهما، والتي حوَّلت الجريدة إلى مرجع جد مفيد في هذا الصدد.
لكنْ، إلامَ يُعزى هذا الارتباك في صدور الصفحات الإسبانية؛ إذا كانت ”الشمال“ على هذا القدر من الأهمية؟ هذا ما يهمني التفكير في أسبابه، وإشراك القارئ في إثارته.
يبدو لي أن المفروض في مثل هذه المدرسة الإعلامية- التي لم تعد تجربةً في خطاها الأولى- الانفتاح على المحيط الإسباني، وأقصد به إشراك الإسبان المقيمين في المغرب والهيسبانيين المغاربة في الكتابة على صفحاتها، بحيث تغدو الصفحات الإسبانية أسبوعية، تعمل على مواكبة الشأن الشَّمالي في بُعديْه الجغرافي والاجتماعي، وذلك عبر التفكير في صيغة لتوزيع الجريدة في سبتة ومليلية وحتى إقليم الأندلس، وإشراك أقلام من هذه المناطق في الكتابة، بحيث تكون تجربة جريئة، تستحضر ”إلْ دِيَارِيُو إسْبَانْيا“، التي كانت تصدر من طنجة وتوزَّع في إسبانيا باعتبارها الجريدة الأولى.
إنَّ المراهنة على قرَّاء قليلين، بعضهم من المصالح القنصلية، ومعظمهم زمرة من المقيمين الإسبان في الشمال، ينتسبون إلى هيئة التعليم الإسباني، ليست في محلِّها، خصوصا إذا علِمْنا أن الجرائد الإسبانية تصلهم بصيغ مختلفة عبر النِّيت والبحر والجو. في حين أنَّ التوجُّه نحو المجال الحيويِّ لشمال المغرب، المتمثِّلِ أساسا في سبتة ومليلية وإقليم الأندلس، ينِمُّ عن وعيٍ إعلاميٍّ يستحضر أيضا الجالية المغربية والمسلمة المقيمة في تلك الديار، خصوصا إذا أدركنا أن مبادرات إعلامية يُخطَّط لها، في أفق إصدار أكثر من جريدة رقمية وورقية، مِنْهَا ما أُعلن عنه رسميًّا في طنجة، كما هو حال جريدة ”Calle de agua“ الوشيكة الصدور. إن لهذا الأمر ما يبرِّرُه في ضوء الشراكة الامتيازية الجديدة للمغرب مع السوق الأوربية المشتركة، وما تقتضيه من حسٍّ إعلامي متقدِّم، يواكب التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي لا يغفل عنها الأوربيون أيضا، بل يعمل على توجيهها باعتبارها سلطة حيقيقة