«إلى الصديق العزيز أحمد الخليع»
في الأدب والتربية الصوفيين ألوان يعبر بها السالكون عند مواجدهم.. ويتوسلون بنفحاتها لتحبيب القرب من الحضرة الإلاهية.. من بينها «السماع» الذي هو غذاء روحي منسوج في أثواب مخاطبات وإشارات تراود قلوب الذين يحيون وينعشون حيواتهم في مسالك مجاهدات وأنواع مرافقات..
وإذا كانت مركزية الدلالة في «السماع» هي ذكر الله، فإن شعراء التصوف قد أبدعوا، وتوسعوا في التماس مايبرز هذه الدلالة ويقويها ويستنفر حدودها الاستمالية.. وعلى رأس ذلك حديثهم بلسان التغزل وتوظيفهم للخمرة وغير ذلك..
ومن أجمل ماصادفته في مطالعتي حول هذا الموضوع في الأدب الصوفي بالمغرب رسالة لأحمد بن عبد القادر التستاوتي (ت1127هـ) إلى بعض أصفيائه مزج فيها بين الفصيح والملحون.. وكشف عن درجات انغماره في بحر القوم.. وهي مؤرخة في أواخر العشر الأواسط من صفر عام اثني عشر ومائة وألف.. ومما ورد فيها:
«.. واعلم أن السماع أحبولة تقتنص فيها الأرواح، وترقص في أقفاصها الأشباح، والناس في ذلك مختلفون، «قد علم كل أناس مشربهم» فمن خلص من الدهش، ورق له المحبوب وهش، نطق بالثناء الجميل في حضرة التبجيل، قائلا:
خدّك ضيْ لهلالْ
ولِّلي شافو فْ النّاسْ يختبلْ
وانت غير اغزال
ماخليت لي كل العقل..
على أنه أعلى من المشبه به، فاعرف ذلك وانتبه.. ومن هذا الأسلوب العجيب الأنبوب:
حسنك حسن اغريب
يجمع لي بين الدا والدوا
وانت غصن ارطيب
وللي شافك ف الناس يبرا
وليس من المحبة أن لا تحب إلا من وافقك، بل إن صحت أحببته وإن خالفك.. وإن تنسمت نسمات الألطاف، ولاح من جانب الغور بارق الانعطاف.. فقل إن شئت:
اغرامك محمود
لو كان يودي للتلف
واجمالك مقصود
وللي ذاق اهواك ماعرف..
وإن غلبك عليك، ما منه إليك، حتى تخيلت أنك تحب الجمال، وتشتاق إلى الكمال، وأنت في اصطلامك، غائب عن إجرامك، فانشد، والجانب الأيمن اقصد:
هذا الحب شديد
وللي ذاقوا ف الناس يهتبل
عندي يوم العيد
يوم يقول محبوبك اقبل..
وإن رأيته في المرئيات، وسمعته في المسموعات، وعاينته في الطالعات، فلا بأس أن ترقص مع الراقصات، وتحدو مع الحاديات، وتقول مع القائلات، وأنت شاطح مع الشاطحات، معذورا في خلع العذار، ولا عليك في الاعتذار، وأنت تقول، واحذر أن تصول:
قلبي صار او طار
وافلت مني، واعدمت الصبر
لاح البرق ودار
نحسب مبسم «ليلى» ظهر
خلاني ف الدار
نتقلب كايني ف الجمر
وكواني ب النار
عذبني اعذابو كـ التمر
عاروا ماهو عار
ماننساه لو سرت للقبر
إذا صد أو جار
كاينو قرّبني من الوطر
واذا اعطف وزار
نتمايل كني اشربت الخمر
ريتو ف الأوتار
واظهر لي عند اخراج الزهر
واظهر لي ف الاسْحار
واظهر لي عند اطلوع الفجر
وارتفعت الاستارْ
بان الحال، اتجلى للنظر
وانفتحت الابصارْ
زال الريب، ولا كان من نكر..
وإن غبت عن إحساسك، وثملت عن كأسك، أو أذن بالتنفس لأنفاسك.. داعيا به إليه.. دالا له عليه.. فناد في كل ناد من غير عجب ولا عجاب، واسلك في نداك الأدب، فعند بسط الموالي يحفظ الأدب، ثم قل، ولا عليك من كثر أو قلّ:
هذا الكاس يدور
وللي يبقي يشرب يجينا
خمر كان اتزور
واتعال، ماتلقى غْبينا
زايرنا مسرور
يبلغ منا حاجة اثمينا
واكلامي مبرور
وللي ذاقو نفسو افطينا
متخمر ب خمور
مجلوبه من عند المدينا..
وعلى هذه الأوضاع ينبغي أن يكون السماع.. فإن للأرواح مراتب في عالم الملكوت، ومشارب في عالم الرحموت، ومطالب في عالم الجبروت، ولكل مقام مقال، ولا يدعي أحد من غير ماله من المقامات والأحوال، فالمهجور ينبغي أن يسمع مايطمعه في اللقا، والواصل ينبغي أن يسمع مايقتضي دوام البقا، ولولا أن الأرواح مكبلة في أكبال الشهوات، ومقفصة في أقفاص المخالفات.. لانخرق الحجاب، ولرأيت العجب العجاب..».
هذا نموذج الكتابات الصوفية ذات الأبعاد التربوية والجمالية.. إنما مثلت به لبلاغة قولية كان يسميها أستاذي وصديقي المرحوم محمد الخمار الكنوني بلاغة الخير ذات البطولة الثلاثية المقدسة: الله، الرسول، الولي.. وهي بلاغة تصدر عن ذوات تواجه أنوار الجمال.. ملفوحة بلهيب الجلال.
في الأدب والتربية الصوفيين ألوان يعبر بها السالكون عند مواجدهم.. ويتوسلون بنفحاتها لتحبيب القرب من الحضرة الإلاهية.. من بينها «السماع» الذي هو غذاء روحي منسوج في أثواب مخاطبات وإشارات تراود قلوب الذين يحيون وينعشون حيواتهم في مسالك مجاهدات وأنواع مرافقات..
وإذا كانت مركزية الدلالة في «السماع» هي ذكر الله، فإن شعراء التصوف قد أبدعوا، وتوسعوا في التماس مايبرز هذه الدلالة ويقويها ويستنفر حدودها الاستمالية.. وعلى رأس ذلك حديثهم بلسان التغزل وتوظيفهم للخمرة وغير ذلك..
ومن أجمل ماصادفته في مطالعتي حول هذا الموضوع في الأدب الصوفي بالمغرب رسالة لأحمد بن عبد القادر التستاوتي (ت1127هـ) إلى بعض أصفيائه مزج فيها بين الفصيح والملحون.. وكشف عن درجات انغماره في بحر القوم.. وهي مؤرخة في أواخر العشر الأواسط من صفر عام اثني عشر ومائة وألف.. ومما ورد فيها:
«.. واعلم أن السماع أحبولة تقتنص فيها الأرواح، وترقص في أقفاصها الأشباح، والناس في ذلك مختلفون، «قد علم كل أناس مشربهم» فمن خلص من الدهش، ورق له المحبوب وهش، نطق بالثناء الجميل في حضرة التبجيل، قائلا:
خدّك ضيْ لهلالْ
ولِّلي شافو فْ النّاسْ يختبلْ
وانت غير اغزال
ماخليت لي كل العقل..
على أنه أعلى من المشبه به، فاعرف ذلك وانتبه.. ومن هذا الأسلوب العجيب الأنبوب:
حسنك حسن اغريب
يجمع لي بين الدا والدوا
وانت غصن ارطيب
وللي شافك ف الناس يبرا
وليس من المحبة أن لا تحب إلا من وافقك، بل إن صحت أحببته وإن خالفك.. وإن تنسمت نسمات الألطاف، ولاح من جانب الغور بارق الانعطاف.. فقل إن شئت:
اغرامك محمود
لو كان يودي للتلف
واجمالك مقصود
وللي ذاق اهواك ماعرف..
وإن غلبك عليك، ما منه إليك، حتى تخيلت أنك تحب الجمال، وتشتاق إلى الكمال، وأنت في اصطلامك، غائب عن إجرامك، فانشد، والجانب الأيمن اقصد:
هذا الحب شديد
وللي ذاقوا ف الناس يهتبل
عندي يوم العيد
يوم يقول محبوبك اقبل..
وإن رأيته في المرئيات، وسمعته في المسموعات، وعاينته في الطالعات، فلا بأس أن ترقص مع الراقصات، وتحدو مع الحاديات، وتقول مع القائلات، وأنت شاطح مع الشاطحات، معذورا في خلع العذار، ولا عليك في الاعتذار، وأنت تقول، واحذر أن تصول:
قلبي صار او طار
وافلت مني، واعدمت الصبر
لاح البرق ودار
نحسب مبسم «ليلى» ظهر
خلاني ف الدار
نتقلب كايني ف الجمر
وكواني ب النار
عذبني اعذابو كـ التمر
عاروا ماهو عار
ماننساه لو سرت للقبر
إذا صد أو جار
كاينو قرّبني من الوطر
واذا اعطف وزار
نتمايل كني اشربت الخمر
ريتو ف الأوتار
واظهر لي عند اخراج الزهر
واظهر لي ف الاسْحار
واظهر لي عند اطلوع الفجر
وارتفعت الاستارْ
بان الحال، اتجلى للنظر
وانفتحت الابصارْ
زال الريب، ولا كان من نكر..
وإن غبت عن إحساسك، وثملت عن كأسك، أو أذن بالتنفس لأنفاسك.. داعيا به إليه.. دالا له عليه.. فناد في كل ناد من غير عجب ولا عجاب، واسلك في نداك الأدب، فعند بسط الموالي يحفظ الأدب، ثم قل، ولا عليك من كثر أو قلّ:
هذا الكاس يدور
وللي يبقي يشرب يجينا
خمر كان اتزور
واتعال، ماتلقى غْبينا
زايرنا مسرور
يبلغ منا حاجة اثمينا
واكلامي مبرور
وللي ذاقو نفسو افطينا
متخمر ب خمور
مجلوبه من عند المدينا..
وعلى هذه الأوضاع ينبغي أن يكون السماع.. فإن للأرواح مراتب في عالم الملكوت، ومشارب في عالم الرحموت، ومطالب في عالم الجبروت، ولكل مقام مقال، ولا يدعي أحد من غير ماله من المقامات والأحوال، فالمهجور ينبغي أن يسمع مايطمعه في اللقا، والواصل ينبغي أن يسمع مايقتضي دوام البقا، ولولا أن الأرواح مكبلة في أكبال الشهوات، ومقفصة في أقفاص المخالفات.. لانخرق الحجاب، ولرأيت العجب العجاب..».
هذا نموذج الكتابات الصوفية ذات الأبعاد التربوية والجمالية.. إنما مثلت به لبلاغة قولية كان يسميها أستاذي وصديقي المرحوم محمد الخمار الكنوني بلاغة الخير ذات البطولة الثلاثية المقدسة: الله، الرسول، الولي.. وهي بلاغة تصدر عن ذوات تواجه أنوار الجمال.. ملفوحة بلهيب الجلال.