وليمة..! من متنه القصصي المنشور «أشياء معتادة» (2002) و«المخلوقات العجيبة» (2006) قرأ علينا المبدع عبداللطيف الزكري نماذج: «قبو المدينة» و«ظهيرة على حافة سماء سوداء» و«الكيميائي».. ومن متنه القصصي المعد للطبع «جرح في الحائط» قرأ علينا نموذجا تلمسنا فيه سمات وخصوصيات.. كانت القراءة (وقد تمت في فضاء مؤسسة كوديناف للتعاون والتنمية مع شمال افريقيا التي يمثلها في طنجة المترجم والناقد إدريس الجبروني) مهادا لمصاحبة تلقائية التقطت بعض مميزات الكتابة السردية عند عبداللطيف الزكري.. لعل أبرزها اللغة الشاعرة التي يوظفها إبداعا لدلالاته واحتفاء بجماليات البناء والتشكيل السرديين.. عبد اللطيف الزكري مبدع يزاوج بين «القصيدة والقصة» لكنه يقيم بينهما ـ في تجربته المخصوصة ـ مسافة جمالية ونفسية مكاشفا المصغين إلى بلاغته: «إذا لم أقرإ الشعر لا أشفى..!» «الشعر يكتبني.. وأنا أكتب القصة..». الرأي عندي أن تعليل هذا التفاوت النفسي هو الاحتكام إلى الوعي الشديد في كتابة القصة.. والانقياد الأشد إلى سلطان الشعر تقبلا وإبداعا.. لكن عبد اللطيف يوحدها في فعل الكتابة التي يعتبرها تبريرا لوجوده.. وهو وجود لا يخضع لصورة منمطة: «كتابتي (يقول عبد اللطيف) لا تسير على نمط واحد.. لأن في التنميط فشلا.. وفي التجريب المنوع حياة وتطويرا..» كانت القراءة مهادا لاستبصار معالم كَوْن قصصي ووسيلة لتكوين انطباع عام على اللغة المتداولة في نصوص الزكري.. أقصد روح الأسلوب ثم مجال الدلالات.. تطارح الحضور أفكارا وانطباعات نأت عن الجاهزية المقيدة.. وعندما بدا لعبد اللطيف إجماع على القول بالمسحة الشاعرة للغة قصه.. كاشف المصاحبين له قائلا: «الرواية التي تعجبني هي التي يحضر فيها الشعر.. أو تكون شاعرية..» وتبريرا لانحيازه استشهد بالإنتاج الروائي للكاتب السوري حيدر حيدر، خاصة روايته «وليمة لأعشاب البحر» الحافلة بشاعرية تكثف أسلوبية تعبيرية تركب الصور والمجاز، وتؤلف بين ميكانيزمات السرد الحداثي التي تحول الإشارات إلى حقائق ووقائع وأحداث ومواقف.. ذكرني استشهاد عبد اللطيف بما اعتلق في ذهني حول ذلك النص الجميل الذي يعتبر إطارا مرجعيا لرواية «مرايا النار» لنفس الروائي.. في موضوعة محنة معارضي النظام البعثي في العراق.. في «وليمة لأعشاب البحر» يفر المعارض «مهدي علام» من جحيم ملاحقات النظام البعثي ليجد نفسه في أتون جحيم الأوليغارشة العسكرية الجزائرية التي حولت ثورة الشعب الجزائري على المستعمر الفرنسي ثورة المليون شهيد إلى صفقة في يد عسكر قادوا انقلابا بزعامة الرئيس الراحل هواري بومدين.. مما دفع بـ«مهدي علام» إلى وضع حد لحياته.. فانتحر وتحول إلى وليمة لأعشاب البحر!؟ |