الرواية
التاريخية والتباس الخطاب الاستعماري
الوقائع التاريخية تهيمن تماما على صياغة النسيج
التخييلي للأحداث
في رواية عيطة تطوان
ابراهيم الخطيب *
يعتبر بينيطو بيريس غالدوس، في تاريخ الادب الاسباني المعاصر، نظير بلزاك،
فقد كان همه الأساسي وضع سلسلة روائية تعكس صيرورة التطور السياسي والتاريخي
والوجداني لإسبانيا خلال القرن التاسع عشر شأنها في ذلك شأن «الكوميديا
الانسانية». ومع أن تأثير نصوصه ظل محدودا في مضمار اسبانيا وبعض البلدان
الناطقة بالإسبانية، إلا أن عمله الادبي كان صورة دالة على تطور الوعي
الاشكالي لدى الطبقات المثقفة الاسبانية منذ معركة «الطرف الأغر» (ترافلغار)
الى عودة الملكية الألفونسية.
تتألف السلسلة الروائية «أحداث قومية» من 45 رواية، وتعتبر «عيطة تطوان»Aita Tettaouen (العيطة كلمة مغربية دارجة
تعني، في معناها المستعمل النداء، وفي معناها المهجور: الحرب أو الجهاد)، التي
تصف حرب احتلال المدينة المغربية سنة 1860، لمدة عام واحد، صياغة ضمنية لنمو
الطموحات الايديولوجية التي واكبت بروز المشروع الاستعماري الإسباني في
أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. من هنا أهمية هذا النص الذي كتب
قبل مائة عام، وبالضبط سنة 1904، أي ثماني سنوات قبل فرض الحماية الاسبانية
على شمال المغرب.
على عادة الكتاب الطبيعيين، وضع الكاتب لروايته مسودة دقيقة تشمل القسم
التاريخي، الذي خصه بعناية كبيرة، والقسم الاجتماعي ـ التخييلي الذي يلاحظ بعض
النقاد أنه لم يحالفه التوفيق في صياغته. فبخصوص المادة التاريخية للرواية،
اعتمد غالدوس على مصادر ووثائق متنوعة، أبرزها: كتاب «وصف حرب افريقيا»، وهو
سفر ضخم زين بعشرات الخرائط والرسوم، وضع بعيد الحرب من طرف ضباط وموظفين
رسميين اسبان، ثم كتاب «يوميات شاهد على حرب أفريقيا» لبيدرو انطونيو ألاركون،
وهو مستشرق اسباني رافق الحملة على المغرب وسجل انطباعاته المباشرة عنها في
كتاب «الاستقصاء» (الجزء الخاص بالدولة العلوية). وبما أن غالدوس لم يكن على
دراية باللغة العربية فقد استعان في الاستفادة من كتاب «الاستقصا» بمستعرب
اسباني من مواليد طنجة هو ريكاردو رويث اورساتي ترجم له القسم الخاص بحرب
تطوان. وتجب الاشارة الى أن المصادر العربية استعملت بصفة استثنائية لصناعة
الفصل الثالث من رواية «عيطة تطوان»، وهو الفصل الذي يروي ـ خلافا لبقية
الفصول ـ على لسان مولد اسباني مسلم هاجر الى المغرب ويدعى «الحاج محمد بن سور
الناصري».
أشرنا قبل قليل الى أن السنوات الاولى من القرن الماضي شكلت السياق الزمني
لصوغ مادة الرواية وكتابتها. ويبدو أنه من الضروري القول بأن هذا السياق، الذي
كان يعتمل بتطورات دبلوماسية وتقلبات سياسية حاسمة، قد ألقى بظلاله على عملية
الكتابة ووضع تخييل التاريخ في حالة احتكاك مع الواقع اليومي. هكذا يخيل إلينا
أن غالدوس، المسيس بامتياز، لم يكتب روايته فقط تحت تأثير ذكريات الحرب التي،
كما يقول فيغيراس في كتابه «المغرب» Marruecos «تواصلت في اسبانيا الى نهاية
القرن التاسع عشر بعد أن حمل أصداءها الى منازلهم أولئك الجنود الذين شاركوا
في الحملة...»( ص 82)، وإنما أيضا تحت تأثير اتفاقيات عديدة بين الدول
الاستعمارية في ذلك الوقت التزمت فرنسا في إحداها بمراعاة «الحقوق المشروعة» لإسبانيا
في الشاطئ الشمالي للمغرب.
تلتزم «عيطة تطوان»، على صعيد بنائها السردي، بناء متتابعا للوقائع حسب
التسلسل الزمني، ويمكننا أن نلاحظ في هذا الصدد أن الوقائع التاريخية تهيمن
تماما على صياغة النسيج التخييلي للأحداث. هكذا تبدأ الرواية بإعلان الحرب على
المغرب، وعلى إثر ذلك يظهر بطل الرواية «خوان دي سانتيوستي» الذي سيتغنى، على
نحو ملتبس يجمع بين السخرية والحماس، بمعارك اسبانيا الظافرة في استرجاع
الاندلس أو في نشر عقيدة المسيح بالقوة في أميركا اللاتينية; قبل أن يشعر
بفظاعة الحرب على مشارف تطوان وضواحيها عندما يرى الارض مزروعة بجثث المغاربة
والاسبان. إن ضعف الخاصية الواقعية لتلك الشخصية لا يمكن تأويله إلا على ضوء
هيمنة المنظور التاريخي من جهة، ومن جهة أخرى على ضوء الوظيفة الوجدانية،
المسندة إليها من طرف الكاتب، والمتمثلة في شعور «خوان» بالتناقض بين الحرب
كحماسة وطنية، وبينها كوقائع قتل وتدمير خالية من أي حس إنساني. ويبدو لها أن
النزوع الى السلام الذي يميز خطاب الرواية على هذا المستوى إنما يستقي معناه
الحقيقي من هذا الاختلال الجسيم بين رؤية الواقع الروائي كتاريخ، ورؤية
التاريخ كواقع روائي.
تتطور الأحداث، زمنيا، انطلاقا من أكتوبر 1859 الى غاية فبراير من سنة
1860. ويجدر بنا أن نشير الى أن أحداث الفصل الثالث من الرواية (وهو الفصل
الذي يرويه الحاج محمد بن سور الناصري كما سبقت الاشارة) يتم التأريخ لها حسب
التقويم الهجري. إن هذا التأطير الزمني الذي يعكس مراحل خروج الجيش الاسباني
من مدريد متوجها برا الى قادس ثم بحرا الى سبتة، قبل بدء توغله داخل الاراضي
المغربية واشتباكه بالمقاتلين المغاربة في ضواحي تطوان ثم دخوله الى هذه
المدينة ظافرا، يشكل، بحركيته اللاهثة، خاصة على صعيد ارتباط المكان بمواجهة
الاخر، سياق الرجة العنيفة التي فجرت بسرعة وحدة كوامن الالتباس في شخصية
«خوان دي سانتيوستي» ما أدى به الى الفرار من الجيش، والتسلل الى تطوان في زي
بدوي يحمل اسم «يحيى» وينطوي على ازدواج لا رجعة فيه: ازدواج المحارب والضحية.
ويعتبر الفصل الثالث من «عيطة تطوان» رؤية داخلية الى تطوان وهي تواجه
الحرب، بمعنييها: حرب انتظار انقضاض الجيش الاسباني، وحرب الفوضى والسلب
والنهب من طرف عصابات مقبلة من مناطق جبالة والريف. في البداية تهيمن على خطاب
الراوي لهجة متحمسة تستقي مجازاتها من الموروث الديني الاسلامي المتسم
بالتفاؤل إزاء مآل الجهاد ضد الكفار، لكن هذه اللهجة سرعان ما يخيم عليها
اليأس والكآبة عندما تبدأ المعارك الاولى فيلاحظ «الناصري» سوء نظام المقاتلين
المغاربة، وتخاذل بعض المتطوعين، ورداءة الاسلحة المستعملة، وضجر الجالية
اليهودية من عسف البدو النهابين. تتحول تطوان الى متاهة مهجورة، فقد غادرتها
العديد من الأسر في اتجاه طنجة أو شفشاون، وها إن منازلهم قد تحولت، بعد أن
نهبت أبوابها، الى مراتع للمشردين والهائمين على وجوههم. إن الفصل الثالث،
المكتوب على شكل تقارير موجهة إلى مفوض ملك المغرب في طنجة، يبرز أن حرب تطوان
كانت، في العمق، حربا أهلية بين المسلمين بعضهم وبعض وبيهم وبين الجالية
اليهودية فضلا عن كونها حربا خاسرة ضد معتدين أجانب يحملون شعارات صليبية.
بقي أن نتساءل عن معنى حرب تطوان في رواية غالدوس.
ولا بد من الاشارة الى أن تركيب الرواية لا يعتمد على أي تحليل سياسي يبرر
تصرف شخصياتها أو تقلباتهم المفاجئة على نحو مدقق. لكن هذا لا ينفي، بطبيعة
الحال، أن الرواية، ككل كتابة تخييلية، تردد ضمنيا أصداء الخطابات التأويلية
السائدة ليس فقط إبان الجريان الفعلي لحرب تطوان، وإنما أثناء عمل غالدوس على
روايته بعد مرور خمس وأربعين سنة على نهاية تلك الحرب.
ومع أن الدلالة الدينية للتدافع حاضرة منذ بداية الرواية والى مراحلها
المتأخرة ـ باعتبار أن حرب تطوان هي استمرا لحرب استرجاع الاندلس وطرد
المسلمين بالنسبة للإسبان، وحرب جهاد ضد صليبيين يهددون أرض الاسلام بالنسبة
للمغاربة ـ فان الملمح البارز الذي يتخلل هذا الصراع هو ظهور نزعة انسانية
تميل الى النظر الى الحرب ككارثة وعبث لا طائل من ورائه مهما كانت نتائجها. إن
هذه النزعة تجد جذورها الايديولوجية في التطور السياسي لغالدوس ذاته، كما
تجدها في مخيال أطروحة «الاخوة» التي توحد الإسبان والمغاربة الذين ينتمون،
مثل «الحاج محمد بن سور الناصري»، الى شجرة أنساب إسبانية. إن هذا ما حدا
بإحدى الشخصيات، في بداية الرواية، للميل الى تصوير الحرب وشيكة الوقوع كحرب
أهلية: «إن المغربي والاسباني أخوان أكثر مما يبدو: فيكفي أن ننزع منهما قليلا
من الدين وبعضا من اللغة حتى تتجلى القرابة والوئام العائلي بارزين للعيان.
أليس المغربي هو الاسباني المسلم؟ والاسبان، أليسوا جماعة من المغاربة مقنعين
بقناع المسيحية؟.. إن الحرب التي نخوضها اليوم هي، الى حد ما، حرب أهلية».
إن هذه الاطروحة ستتبلور أكثر مع تطور المشروع الاستعماري الذي كانت
السنوات الاولى من القرن العشرين (وهي الفترة التي كتبت فيها الرواية) حبلى
به، والتي ستغدو جزءا من ايديولوجية التوسع وتبرير الاحتلال الإسباني
المستعملة من طرف (فيغيراس) وغيره منظري فترة الحماية.
* كاتب وناقد من المغرب
|