أساور وأعلاق..
«الخلافات التافهة هي التي توجهنا في الحياة.. وتأثيرها علينا أعظم من كل تأثير!»
التهامي الوزاني
لا تنصرف كتابات التهامي الوزاني إلى مادة دون غيرها.. وهي تؤول إلى نسق صاف.. جوَّابٍ لآفاق.. حاشدٍ لمشاهدَ ومشاهدات ومقروءات.. في طلاوة مُسْتعْذَبةٍ وفكْر طريف.. وذكاء في العرض والتحليل والتأويل.. بلغة غير متوسعة في المجازات، ولا موغلة في الاستعارات.. وفي تزاوج بين شعْريّة الكلام وبين مُتطلَّبات الحجاج والإقناع.. وغير ذلك من السمات الأسلوبية لكبار الكتاب والمفكرين.
كان التهامي الوزاني صاحب ريادات.. وفي ذاته تأتلف ذواتُ المثقف الفاعل في ديناميات السياسة، خاصة سياسة حزب الإصلاح.. والحقوقي المسهم في تأسيس أول إطار حقوقي عرفه المغرب الحديث بتطوان (21 ديسمبر 1933).. والمتصوف الناشء في حضن الطريقة الدرقاوية.. والمربي المشارك في تأسيس المدرسة الأهلية.. والمؤرخ الواضع لتآليف حول تاريخ المغرب ومنطقته الشمالية.. والصحافي المنشء لمنبر «الريف»، والمحرر لمقالات في هذه الجريدة وفي «الحرية».. والمترجم لمتن أدبي عالمي هو «ضون كيخوطي».. وكاتب السيرة والرواية الفلسفية والرحلة والخرافة.. والمفسر لآي القرآن الكريم تفسيرا أسماه «الرفرف».. ورجل الدين المتفتح المتسامح المعقْلِن..
هو ذا الوزاني الذي بنى مجده الثقافي والفكري بعصامية مشهود بها.. وبنزعة إنسانية صوفية كانت ومازات موضوع إبهار.. وأما تراثه فتركة نفيسة تحتاج إلى لَمٍّ ثم مقاربة في سياقاتها.. بأُطُر نظرية واضحة واحتكام إلى أخلاقيات البحث بكل ماتقتضيه من حرية وأمانة وإنصاف وتحرٍّ كاشف لحقيقة رجل ذي وزن كبير في تاريخ وجغرافية الثقافة المغربية الحديثة..
قرأت مصورة مخطوط وضع له التهامي الوزاني بنية عنوانية رمزية هي «الأعلاق والأساور».. انتهى منه في ثالث عشر صفر 1372 الموافق لثاني نوفمبر 1952.. وقد عقد فيه نية وقصدا للتنويه بآل البيت.. أقام الوزاني معماره الفكري الفلسفي، في هذا التأليف على أساسين، عام وخاص.
فأما العام فمدخل تناول فيه بالبيان والتبيين تفصيل الحكمة الإلاهية في مخلوقاته وموجوداته المستندة إلى إحكام وإتقان ربَّانيين «.. ماترى في خلق الرحمان من تفاوت».. اجتهد في هذا المكون لاستحضار كل العناصر الناظمة لرؤية نسقية للكون بدءا من الماء «وجعلنا من الماء كل شيء حي» فالتراب فالطبيعة فالحيوان فالإنسان.. دفاعا عن فكرة الوحدة والتجانس والمساواة يقول الوزاني: «... والإنسان نوع واحد ذو أصناف متعددة، وقد قضى على وجه الأرض عصورا متطاولة، وكثرت بينه عادة الهجرة، حتى ليصح القول بأنه لا يوجد منه صنف لم يختلط بغيره من الأصناف..»، ثم يقول في موقع آخر «وكم أحدثت سياسة التفرقة العنصرية من أحداث خطيرة، ولو أن الناس أدركوا من قول الله سبحانه «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم» لاستراحوا من داء الأنانية الجامحة التي كان المصدر الأول للأحقاد والشحناء..»
وبرُؤْية شَمَّالةٍ ومنطق قوي يدحض الوزاني مزاعم السلاليين القائلة بأن «النوع الواحد يشتمل على أصناف جيدة وأخرى رديئة، دجاج يبيض بيضا صغيرا إلى جانب دجاج يبيض بيضا كبيرا.. وحُمُر سريعة وأخرى بطيئة.. وكذلك الشأن في الناس يوجد بينهم أصناف يصح الحكم عليها في جملتها من أنها تحمل خصائص الرفعة أو الانحطاط.. وهناك أصناف رديئة في النباتات والثمار والمعادن، ولا ينبغي أن يشذ الإنسان عن هذه القاعدة..!».
وفي معرض نقد هذه الفكرة المتطرفة/ العنصرية يقرر الوزاني اعتمادا على خلاصات علماء البحث عن خصائص الإنسان أن ما يظهر من تفاوت بشري إنما مرجعه إلى «عوامل خارجية لا مساس لها بذاتية النوع سواء في جنسه أو فعله.. وإن الحواجز القائمة بين الأصناف البشرية في الوقت الحاضر يُتغلب عليها بالتربية الصالحة والتعليم الصحيح والتوجيه «الرشيد»..»
وأما الخاص فبسط تاريخي للتعلق بآل البيت المتخلقين بأخلاق رسول الله من صفح وحلم وكرم وعفة وطيبة قلب وطهارة نفس وعلو همة وإقبال على الآخرة وإعراض عن زهرة الدنيا.. وغير ذلك من الخصال الباطنة التي تنعكس على بشرتهم الظاهرة فيترقرق نور النبوة، وينشط الدم النقي الجاري في عروقهم!!
الأساس في حديث الوزاني عن آل البيت هو تبيان فكرة هدم الإسلام للحدود بين الطبقات وجعل البشر قسمين، أهل رضى الله، وأهل سخطه، خلافا لمنطق الناس الذين أقاموا أرستقراطية: المال والجاه والعلم والحسب والنسب